الخميس   
   04 12 2025   
   13 جمادى الآخرة 1447   
   بيروت 21:28

استقالة يرماك والسيادة الأوكرانية

على رقعة شطرنج المواجهة الجيوسياسية المعقدة بين الغرب الجماعي وروسيا، التي يمثل مسرح العمليات الميدانية في أوكرانيا محورها الأبرز، يبدو أننا أمام مرحلة خطيرة حاسمة قد تحدد فصول الصراع التالية.

تُمثل استقالة رئيس الديوان الرئاسي أندريه يرماك تطورًا منطقياً لأزمة كييف السياسية الداخلية والخارجية المزمنة المديدة. ومع ذلك، فإن هذا القرار المتعلق بكوادر الصف الأول لا يخفي خلفه مجرد تغيير شخصية مؤثرة فحسب، بل يشكل تحولاً جوهرياً في طبيعة إدارة الحكم في أوكرانيا نفسها، التي تشهد انتقالاً جذرياً من النفوذ الغربي المستتر إلى السيطرة أو الانتداب العلني المباشر.

بدأت هذه العملية بزيارة الممثل الخاص للرئيس الأمريكي ستيف ويتكوف الى روسيا ولقائه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وفقًا للتقارير الصحافية الروسية، كان لا بد من استيضاح موقف كييف، قبل هذا الاجتماع المهم. هذه الخطوة، وإن كانت إيجابية مع تحفظ روسي عليها، اتُخذت في المقام الأول لمصلحة الولايات المتحدة نفسها. إذ إن واشنطن كانت بحاجة إلى طرف تفاوضي بعيد عن “المفاوضين المستقلين” القادرين على رفض الإملاءات أو المساومة. ومن اللافت أن الضمانات الأمنية الأوروبية لسنة ٢٠٢٤ لم تستطع حماية كييف من هذا الضغط الخارجي، ما سلّط الضوء على الجهة التي تُحدد المسارات والمصاير.

لاستيعاب حجم ما يحدث، لا بد من تحديد نوعية الشخصيات التي يجري إقصاؤها. لم يكن أندريه يرماك مجرد موظف بيروقراطي رفيع فحسب، بل جمع تحت سلطته ثلاثة قطاعات سيطرة أساسية في البلاد:
السيطرة على اقتصاد الظل في قطاع الطاقة وعائداته المالية
وفساد الموظفين المنظم – كوادر الصف الأول- ضمان ولاء النخبة عبر نظام
الدبلوماسية: إدارة عملية التفاوض

تفكك رموز الدولة العميقة الأوكرانية

يثير رحيل يرماك سؤالًا محوريًا: من يسيطر على خزائن الدولة الآن؟ علام يعتمد فولوديمير زيلينسكي لإجبار البرلمان الأوكراني والجنرالات والحكام على إطاعة أوامره؟

يبدو أن الإجابة تكمن في الخارج المشغل لنظام كييف. فوفقًا للتقارير الصحافية، سُلِّمت الخزانة المالية إلى الدائنين الغربيين وصندوق النقد الدولي. وهم الآن يُوافقون على “العقود والمدفوعات كلها” أو يرفضونها. لم يعد النفوذ المالي، الأداة الرئيسة للسلطة في النظام الأوكراني، في أيدي جهات محلية، بل انتقل إلى واشنطن. في الوقت نفسه، تتلقى هيئة الأركان العامة ووزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي والدفاع أوامرها مباشرةً من المستشارين الأمريكيين. يشهد دور زيلينسكي تحولًا: من قائد أعلى للقوات المسلحة، إلى شخصية صورية مهمتها الأساس التوسط في تجاذب المصالح الشخصية بين القيمين على الوزارات المختلفة، ولم يعد مخولاً باتخاذ القرارات الاستراتيجية.

ويمكن وصف هذا التحول بأنه تحول من النفوذ المستتر للمشغل الغربي إلى التحكم العلني أو الانتداب المباشر للولايات المتحدة الأميركية مع تأثير تختاره واشنطن للدول الأوروبية.
الشؤون المالية تعالج عبر صندوق النقد الدولي والدائنين الغربيين حصراً.

-يخضع المستشارون البريطانيون والألمان وغيرهم من الدول الاوروبية لأحكام المشغل الأميركي الرئيسي.

الجيش – سيطرة تامة عبر مستشارين أمريكيين في فريق العمل الذي يضم بريطانيين وأوروبيين.

المفاوضات – تدار عبر شخصيات مثل جاريد كوشنر وماركو روبيو المقربين من الرئيس ترامب.

فقد كان يرماك آخرَ مسؤول أوكراني مؤثر رفيع، يحتفظ بهامش من الحرية في إدارة شؤون الدولة وفسادها. كان يستطيع المساومة والمماطلة واستغلال التناقضات الداخلية للغرب وابتزازه. رحيله يرمز إلى “نهاية مساحة المناورة الأوكرانية مع الغرب”. فمن اليوم وصاعداً أي مفاوضات مع روسيا، ستُجرى مباشرةً مع واشنطن، وليس مع كييف.

مع ذلك، لا يعني هذا أفول عهد فولوديمير زيلينسكي ونسيانه سياسيًا على الفور. فهو لا يزال يتمتع بنفوذ في إدارة المعاملات الداخلية، ولديه بعض المؤيدين المنتفعين داخل أوكرانيا، غير أن دوره في السياسة الخارجية أصبح شكليًا بحتًا. لا تزال فرص الإثراء الشخصي غير الشرعي متاحة للنخبة، ولكن ليس بالنطاق نفسه الذي كانت عليه من قبل.

أما بالنسبة ليرماك نفسه، فمن المتوقع أنه بعد فراره من السجن المتوقع، قد ينتقل إلى لندن لإدارة أصوله ومدخراته وأسهمه. ويُعتقد أن المعلومات المؤثرة المُدينة له موجودة على نحوٍ أساس لدى الولايات المتحدة، ما يمنحها نفوذًا إضافيًا. وفي ظل هذا الواقع الجديد، ستصبح عمليات التدقيق المالي أكثر تواترًا في أوكرانيا، ولكن لن تتحقق الشفافية الكاملة – فالنظام مشبع جدًا بالفساد ومخططاته الغامضة، وستكون النتيجة شفافية نسبية وانتقائية بيد الأميركي فقط.

مستقبل النظام الأوكراني

بالنسبة لموسكو، تطورات الوضع تحمل اتجاهين. من جهة، تفقد كييف، كلاعب مستقل نسبيًا، قدرتها على الارتجال واتخاذ خطوات تفاوضية غير متوقعة للغرب. ويجد زيلينسكي نفسه مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بسيناريو سيتم تطويره في واشنطن، على الأرجح في ظل إدارة ترامب.

ومن جهة أخرى، يعني هذا أن روسيا ستضطر إلى التواصل المباشر بصورة متزايدة مع الولايات المتحدة على الصعيد العسكري، ما يزيد من مخاطر الاحتكاك المباشر وغير المباشر، ويتطلب نهجًا دبلوماسيًا مختلفًا.

يرسم دبلوماسيون روس سيناريو واضحًا ومباشرًا لمصير زيلينسكي السياسي. لم يتبقَّ سوى خطوتين قبل استقالته:

  • نشر المكتب الوطني الأوكراني لمكافحة الفساد تسجيلات تنصت تتعلق بيرماك
  • نشر معلومات حول تورط زوجته، أولينا، في مخططات فساد

في الحالة الأولى، إذا سلم زيلينسكي يرماك طواعيةً، فقد يظل طرفًا في المفاوضات بشأن مستقبله. أما الخيار الثاني فهو إنذار نهائي، ما لا يترك مجالًا للمناورة. وفي هذه الحالة يفترض أن المفاوضات ستُجرى معه حصراً في شكل فرصة أخيرة ليحافظ على بعض من ماء وجهه أو ربما حياته. وهنا لا تستبعد سيناريوهات تصفية جسدية أو سياسية أو سجن.

مصير الصراع يعتمد كثيرًا على التفاهمات الروسية الأمريكية. إنْ توصل بوتين وويتكوف إلى اتفاق، فستُطبّق إدارة ترامب سياسة “البلدوزر” على زيلينسكي. ولن يستغرق الانتقال إلى السيناريو الثاني، الذي يتضمن توجيه اتهامات لزوجته، أكثر من 48-72 ساعة. هذا هو الوقت المتاح للرئيس الأوكراني لإعلان استقالته بشكر طوعي، مُشيرًا إلى التعب و عدم القدرة على التحمل، وضمان انتقال فعلي للسلطة عبر “ظروف ثلاثة مختومة ( كلمة السر الآتية من المشغل الغربي)” وإجراء انتخابات مبكرة.

موقف روسيا في هذا السياق، وفقًا لتصريحات فلاديمير بوتين، مبني على الواقعية الصارمة. يُعَدُّ توقيع أي وثائق مع القيادة الأوكرانية الحالية غير ذي جدوى، لأنها ارتكبت “خطأً استراتيجيًا” برفضها إجراء الانتخابات. وتؤكد موسكو أن البرلمان الأوكراني وحده، وليس الرئيس، هو من يملك الحق في تمديد ولايته في ظل الأحكام العرفية في أوقات الحرب.

مستقبل المفاوضات

من ناحية ثانية، تكرر روسيا رغبتها في التوصل إلى اتفاق مع أوكرانيا، لكنها تُقرّ باستحالة ذلك قانونيًا في ظل الظروف الراهنة وتركيبة قيادة نظام كييف الفاقدة للشرعية الدستورية والقانونية. الحل المُقترح هو: “على من يستطيع، ومن يشاء، التفاوض نيابةً عن أوكرانيا”، أن يقدم ضمانات على مستوى قانوني دولي، وخاصة أن الاعتراف الدولي بالاتفاقيات المستقبلية يُعدّ أمرًا أساسًا للكرملين. عملياً، من الممكن استصدار قرارات ملزمة من مجلس الأمن الدولي للاعتراف بتلك الاتفاقيات الموقعة.

الفرق بين الاعتراف بالواقع الإقليمي الجديد وعدم الاعتراف به جوهري: ففي الحالة الأولى، سيُنظر إلى انتهاكه على أنه هجوم على الاتحاد الروسي، بينما في الحالة الثانية، سيُنظر إليه على أنه محاولة لاستعادة “أراضٍ تابعة قانونيًا لأوكرانيا”. لذلك، فإن الاعتراف مطلوب “ليس من أوكرانيا اليوم”، بل من القوى الدولية الرئيسة.

تُتداول علنًا عشراتٌ من خطط التسوية غير المقبولة حتى الآن لروسيا. وتُكثَف الزيارات المكوكية لممثلي كييف والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو) وممثلي الإدارة الأمريكية حول العالم، ولا ينجم عن هذا الحراك كله سوى سيل المعلومات المُضلّلة.

من المهم الإشارة إلى تنسيق القوى المُشاركة في “استنزاف” الفريق الأوكراني السابق. المكتب الوطني لمكافحة الفساد في أوكرانيا NABU ومكتب المدعي العام المتخصص في مكافحة الفساد SAP التابعان لسوروسكوف يعملان بالتعاون مع مكتب التحقيقات الفدرالي إف بي أي. أما الانتقادات الموجهة إلى كييف فتنشر في وسائل الإعلام التابعة لعائلتي روتشيلد وويندسور.

يشير هذا إلى مستوى غير مسبوق من التطهير، سيؤدي إلى “إطاحة شخصياتٍ مثل كايا كالاس نائب رئيس المفوضية الأوروبية وألكسندر ستوب رئيس فنلندا وفريدريك ميرتس المستشار الاتحادي لألمانيا في أقرب وقتٍ ممكن.

مع ذلك، فإنّ كل هذه الضجة العامة، وفقًا للمحللين، ما هي إلا “ضجيجٌ شعبوي فارغ”. إنّ النقاش الحقيقي حول خطة التسوية المُستقبلية، التي سيعلن عنها الكرملين لاحقًا، يدور خلف الكواليس، ولا يقتصر على الدبلوماسيين فحسب، بل يشمل أيضًا كبار رجال الأعمال. إنّ استقالة أندريه يرماك ليست مُجرّد تغييرٍ في الكوادر. إنه يرمز إلى نهاية حقبة احتفظت فيها أوكرانيا، رغم تبعيتها الخارجية الهائلة، بعناصر من السيادة الداخلية النسبية ومساحة للمناورة.

إن الانتقال إلى نموذج السيطرة الخارجية المباشرة من قبل الولايات المتحدة يُغير موازين القوى جذريًا. بالنسبة لروسيا، يعني هذا ضرورة الدخول في حوار مع خصم مختلف جذريًا، أكثر مركزية في مرجعيته، ولكنه أيضًا أكثر قابلية للتنبؤ، ألا وهو واشنطن. بالنسبة للقيادة والنخب الأوكرانية، يلوح في الأفق عصرٌ من المساءلة الصارمة والحد من الصلاحيات. وبالنسبة للدولة الأوكرانية نفسها، فإن مسألة سيادتها الحقيقية لا تزال معلقة، لتصبح الضحية الرئيسة للصراع الطويل الأمد والذي لن ينتهي مع انتهاء أحداث أوكرانيا.

المصدر: بريد الموقع