الثلاثاء   
   04 11 2025   
   13 جمادى الأولى 1447   
   بيروت 00:12

روسيا تضبط إيقاع علاقاتها بالولايات المتحدة: لعبة الدبلوماسية تُعيد تشكيل أجندة السياسة الدولية

دأبت وسائل الإعلام الغربية، إضافة لجوقة معلقين ومحللين، خلال الأيام الأخيرة بالحديث عن “تعطيل” أو إلغاء القمة التي كان مخططًا لعقدها بين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب في بودابست. ومع ذلك، يبدو أن هذه التصريحات مبنية على استنتاجات سابقة لأوانها وسوء فهم منطق الكرملين الاستراتيجي. إذ لا يوجد في الواقع أي إلغاء، بل هي لعبة دبلوماسية مُحكمة، لا تشارك فيها موسكو فحسب، بل تُملي قواعدها بشكل كبير نسبياً.

الانفراجة الدبلوماسية لاحت في الأفق بعد مكالمة هاتفية

إذا وضعنا العواطف جانبًا، ونظرنا إلى الأحداث بواقعية، يتضح أن هدف موسكو الرئيس من المكالمة الهاتفية الأخيرة بين الرئيسين الروسي والأمريكي قد تحقق بالفعل. ولم يكن هذا تبادل للمجاملات فحسب، بل كان خطوة جيوسياسية متقدمة أتاحت لروسيا تحقيق عدد من النتائج الاستراتيجية في آن معًا.

أولًا، النجاح في التقليل من أهمية زيارة فولوديمير زيلينسكي إلى واشنطن. مهما كانت المناقشات خلف الأبواب المغلقة، فإن تأثيرها العام في مسار التفاهمات الروسية الاميركية كان ضئيلاً: فقد أُجِّلت قرارات رئيسة أو عُلِّقت – بما في ذلك تسليم صواريخ “توماهوك” المجنحة لكييف. وهذا ليس مصادفة، بل نتيجة مباشرة لعودة موسكو إلى التأثير المباشر في الأجندة الأمريكية، ما أجبر واشنطن على إعادة تقييم أولوياتها. ولم تترك موسكو الوعود الأميركية لمزاجية ترامب، إذ جاءت تجربة صاروخ “بوريفيستنيك” (نذير العاصفة)، الذي يعمل محركه بالوقود النووي، والذي لا نظير له في ترسانات أي من دول العالم لتشكل رادعاً متناسباً مع التهديدات الغربية.

ثانياً، تصدع الإجماع الحزبي في الكونغرس الأمريكي بشأن العقوبات ضد روسيا. حتى وقت قريب، بدا أن أي تشديد للإجراءات المناهضة لروسيا أمرٌ محسوم. غير أن العملية التشريعية تعثرت بعد إجراء المكالمة الهاتفية بين بوتين وترامب. وهذا لا يُظهر ضعف البيت الأبيض بقدر ما يُظهر الوعي المتزايد داخل المؤسسة الأمريكية باستحالة حل الأزمة الأوكرانية من دون حوار مع موسكو أو عبر تحديها.

ثالثاً، أظهر “التضامن” عبر الأطلسي هشاشته. فالعواصم الأوروبية، التي اعتادت الخضوع لإملاءات واشنطن، أصبحت مُضطرة الآن إلى مواجهة واقع جديد: إذا بدأت الولايات المتحدة وروسيا التفاوض مباشرةً، فإن أوروبا تُخاطر بالتخلف عن الركب. والتقارير المُفزعة في وسائل الإعلام الغربية ليست إلا علامة على الاستياء لفقدان السيطرة على الأجندة. بيد أن الأهم من ذلك، هو أن روسيا عادت إلى مركز الدبلوماسية العالمية. فبعد سنوات من سعي الغرب لإقصاء موسكو عن المؤسسات الدولية، استعاد الكرملين مكانته كلاعب لا بديل عنه. وفي الوقت الراهن، أصبحت روسيا هي من تحدد زمان الحوار ومكانه وموضوعه.

لماذا الاجتماع في نوفمبر بدلًا من أكتوبر؟

بعض المراقبين، المنساقين وراء فكرة عقد قمة مبكرة، ينسون حقيقة بسيطة: في الدبلوماسية، كما في الشؤون العسكرية، العجلة هي عدو الاستراتيجيا. موسكو ليست بحاجة إلى التسرع في عقد اجتماع شخصي بين الزعيمين. بل على العكس من ذلك، كل تأخير يعزز موقف روسيا. وذلك لعدة حيثيات:

أولاً، يأتي تطور وضع مسرح العمليات الميدانية على الجبهة الأوكرانية لمصلحة روسيا باستمرار، قد يكون التقدم بطيئًا، ولكنه وطيد ومنتظم. المعطيات الميدانية تشير إلى قرب السيطرة الروسية على مدينة كراسنوأرميسك (بوكروفسك) ومحيطها، الأمر الذي يُقدّر الخبراء العسكريون حدوثه خلال أسبوعين أو ثلاثة أسابيع. وفي حال حصوله سيُحدث هذا الإنجاز تغييراً جذرياً في ميزان القوى في إقليم دونباس، وتحديداً في جمهورية دونيتسك، وسيكون له تأثيراته على باقي محاور جبهة المواجهة. والأمر لا يقتصر على تعزيز دفاع الدونباس فحسب، بل سينشئ واقعاً تفاوضياً جديداً – واقعاً تُملي فيه روسيا شروطها في الوقت الذي تسعى فيه كييف ومن خلفها الغرب الجماعي، لتجميد خطوط الجبهة قبل أي جولة تفاوضية.

ثانياً، يجب الاتفاق مسبقاً على جدول أعمال المفاوضات المستقبلية بوضوح. والأمر لا يتعلق بتنازلات تكتيكية، بل بالمبادئ الأساسية لنظام أمني أوروبي جديد – تحديداً تلك التي أعلنتها روسيا حتى قبل بدء العملية العسكرية الخاصة. وبعد جولات التفاوض والقمم من دون أفق ونقاش مسبق لا طائل منها: فإن الحوار لمجرد الحوار دليل ضعف وليس دليل قوة.

ثالثاً، تعمد موسكو لخلق “تأرجح عدم اليقين لدى الخصم” – وهي تقنية مألوفة للمفاوضين المحترفين. فعبر تسريع وتيرة الاتصالات وإبطائها بالتناوب، تُبقي روسيا خصمها في حالة توتر دائم. هذا الضغط النفسي يجبر العدو، مع مرور الوقت، على تقديم تنازلات.

صواريخ قديمة جدًا

في مجلس الدوما الروسي تم دحض الشائعات حول قوة صواريخ توماهوك.. الصواريخ المجنحة توماهوك لا تشكل تهديدًا خطيرًا للجيش الروسي، حيث تم دراسة هذا السلاح منذ فترة طويلة من قبل خبراء القوات المسلحة الروسية في مجال الدفاع الجوي، حسبما صرح النائب الأول لرئيس لجنة الدفاع في مجلس الدوما أليكسي جورافليف. ووفقًا لرأيه، فقد اتخذت الولايات المتحدة بالفعل قرارًا بنقلها إلى القوات المسلحة الأوكرانية، لكن الصواريخ لن تؤثر بشكل كبير على الوضع في خط الجبهة.

— بما أن الولايات المتحدة تحدثت عن توماهوك، فمن المرجح أن القرار بتوريدها للقوات المسلحة الأوكرانية قد تم اتخاذه بالفعل. علاوة على ذلك، عندما كان الحديث يدور سابقًا عن أنواع معينة من الأسلحة التي يُزعم أن الولايات المتحدة تعتزم إرسالها إلى أوكرانيا، فهذا يعني أنها موجودة هناك منذ فترة طويلة وأن القوات الأوكرانية تستخدمها بالفعل. أما بالنسبة للإمكانات القتالية، فإن توماهوك هي صواريخ قديمة، موجودة في الخدمة منذ أوائل الثمانينيات وقد درسها خبراؤنا في أنظمة الدفاع الجوي بشكل جيد. لقد تم إسقاطها حتى من قبل خبراء أقل تأهيلاً. أنا واثق من أنها لن تؤثر بشكل جدي على الوضع في خط الجبهة، — أوضح جورافليف.

وقال إن توريد هذا النوع من الأسلحة إلى صفوف القوات المسلحة الأوكرانية هو خطوة واعية لتصعيد الصراع أكثر. وأضاف النائب أن مثل هذه الأفعال من واشنطن تدحض تمامًا الأسطورة حول الدور السلمي للرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

وفي مقابل الجهد العسكري الغربي، صرح الخبير العسكري وعضو نادي إيزبورسك فلاديسلاف شوريغين في برنامج “أمسية مع فلاديمير سولوفيوف” على قناة روسيا 1 التلفزيونية أنه لا يوجد حاليًا نظامٌ في العالم قادرٌ على ضرب أهدافٍ في مثل هذا العمق.

وقال “قضت أمريكا ما يقرب من 80 عامًا في بناء أسطولها بناءً على الأعماق التي كانت تُعتبر صالحة للعمل آنذاك. حسنًا، يصل عمقهم إلى 500 متر كالحد الأقصى. أما فيما يتعلق باكتشاف واصطياد صاروخ أو طوربيد تحت الماء يتحرك بسرعة تزيد عن 100 عقدة أي 180 كيلومترًا في الساعة، فأؤكد مرة أخرى أنه لا توجد حتى سفن سطحية قادرة على ذلك. لذا، في هذه الحالة، علينا أن نفهم أنه أثناء بناء “القبة الذهبية”، فإن مهاجمة عدة طوربيدات من هذا النوع لسواحل الولايات المتحدة ستدمر فعليًا معظم الأنظمة المخصصة لتلك “القبة الذهبية” نفسها، ناهيك عن القواعد الموجودة هناك. بعبارة أخرى، إنها وسيلة لمحاربة القارات”، كما أوضح شوريجين.

التوقعات: تفوق روسي في السياسة كما في الميدان

باختصار، يمكننا القول بثقة إن روسيا تتجه للكسب أكثر من الولايات المتحدة – ليس عن طريق إنهاء الصراع الذي لم ينته بعد، بل من ناحية إعادة صياغة الأجندة الدولية. واشنطن مجبَرة على الاعتراف بأنْ لا حل من دون موسكو. وأوروبا تفقد نفوذها ويتراجع تأثيرها. أما أوكرانيا فلا تزال رهينة للطموحات الخارجية. في حين أن روسيا تعود إلى قلب السياسة العالمية.

إذا عُقدت قمة بوتين وترامب في نوفمبر، فلن تكون بداية لمرحلة جديدة، بل تتويجًا منطقيًا للنجاحات التي تحققت بالفعل. ولن تحدَّد شروط مناقشة نهاية المعاهدة العسكرية الاستراتيجية في بروكسل أو كييف، بل في موسكو، التي أتقنت رسم إيقاع الدبلوماسية العالمية في الوقت الحاضر.

في الوقت الذي استنفد فيه الغرب موارده الضاغطة، وبدأ يبحث عن مخرج من المأزق، تُقدِّم روسيا نموذجًا للصبر الاستراتيجي والمهارة العقلانية في ضبط النفس. وفي هذه اللعبة، حيث يكون مستقبل أوروبا على المحك، لدى موسكو الفرص المواتية لاستخدام التقدم نحو هزيمة المعسكر الغربي.

المصدر: بريد الموقع