منذ تشكيل الحكومة اللبنانية، يبدو أن جدول أعمالها يدور بشكل شبه حصري حول بند واحد: “نزع سلاح المقاومة”، وكأن هذا هو الهدف الأساسي الذي وُجدت من أجله. في المقابل، تتراجع القضايا الاقتصادية والمعيشية والبيئية إلى مرتبة ثانوية أو هامشية. فهل شهدنا، خلال الأشهر الستة الماضية، اجتماعًا حكوميًا مخصصًا لوضع خطة شاملة لجذب الاستثمارات، أو لتحسين مستوى المعيشة، أو للحد من التلوث الذي يفتك بالبيئة والصحة العامة، أو لتنظيم السير وتخفيف الفوضى المرورية، أو لزيادة ساعات التغذية بالكهرباء التي لا تزال أقل بكثير من الحد الأدنى المطلوب للحياة اليومية؟
هذه الملفات التي تمس حياة المواطنين مباشرة، تمرّ مرور الكرام في النقاشات الرسمية، بينما يتصدّر ملف “نزع السلاح” المشهد الإعلامي والسياسي.
وفق الخطاب الرسمي وبعض التغطيات الإعلامية، يُسوَّق لهذا البند على أنه شرط أساسي لإعادة الإعمار والحصول على التمويل الدولي. وتقوم هذه الرواية على فرضية مفادها أن المانحين — ولا سيما الولايات المتحدة ودول الخليج — لن يضخوا أموالًا في لبنان إلا إذا تم نزع سلاح المقاومة. وبناءً على ذلك، يُصوَّر المساعدات الخارجية كأنها السبيل الوحيد لإطلاق عجلة الإعمار، وأن الحصول على “الرضا الأميركي” هو البوابة الحصرية لنهضة البلاد.
غير أن هذه الفرضية ليست دقيقة بالكامل. فالوقائع والأرقام تشير إلى أن كلفة إعادة الإعمار، وفق البنك الدولي، تبلغ نحو 11 مليار دولار إذا احتُسب التعافي الشامل بما في ذلك البنية التحتية والتجارة، فيما تتراوح الكلفة الخاصة بالإسكان بين 3 و5 مليارات دولار. أما لجنة إحصاء الأضرار في “جهاد البناء” فتقدّر الكلفة الأولية لإعادة إعمار الضاحية والجنوب والبقاع بنحو 3 مليارات دولار فقط.
هذا المبلغ، إذا افترضنا أنه 3 مليارات دولار، يمكن تأمينه من خلال التمويل المحلي، تمامًا كما تفعل غالبية دول العالم، عبر نظام ضريبي عادل وتصاعدي يستهدف الشرائح الأكثر ثراءً. ففي موازنة العام الماضي، ساهمت الشريحة الأغنى — وهي 10% من السكان وتمتلك 70% من الثروة — بنسبة 9% فقط من الإيرادات العامة (3.3 مليار دولار)، بينما تحمّل باقي اللبنانيين 91% من العبء الضريبي، في غالبه عبر ضريبة القيمة المضافة التي تثقل كاهل الفئات المتوسطة والفقيرة.
الأرقام تكشف أن الضرائب المباشرة شبه غائبة: الضريبة على الإرث لا تتعدى 1.61% من الإيرادات، الضريبة على الفوائد 1%، والضريبة على الأملاك 0.34%.
رفع هذه النسب، وتوسيع الوعاء الضريبي، وتحسين جباية الدولة، يمكن أن يوفّر تمويلًا كافيًا لإعادة الإعمار دون اللجوء إلى الخارج، ودون شروط سياسية تمس بالسيادة الوطنية.
وأمامنا العديد من النماذج الدولية التي اختارت تمويل إعادة الإعمار والتنمية من مواردها الداخلية، بدل الارتهان للمساعدات المشروطة أو ممارسة “البكاء عند الأميركيين”. فـ الصين ، اعتمدت على تعبئة مواردها المحلية وفرض ضرائب تصاعدية على رؤوس الأموال لتطوير بنيتها التحتية. وسنغافورة، في بدايات استقلالها، وضعت سياسة مالية صارمة قائمة على تحصيل عادل للضرائب وتحفيز الاستثمار المحلي. أما اليابان، بعد الحرب العالمية الثانية، فرغم المساعدات الأميركية المحدودة، استخدمت نظامًا ضريبيًا قويًا لتمويل نهضتها الصناعية. وحتى إيران، رغم الحصار الاقتصادي الواسع، اعتمدت على الضرائب والموارد المحلية لضمان استمرارية قطاعاتها الأساسية.
المصدر: بريد الموقع