السبت   
   12 07 2025   
   16 محرم 1447   
   بيروت 23:51

شيعة لبنان، والتهديد الوجودي

د. أحمد الشامي*

ليس بالأمر البسيط توصيف أمين عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم لشيعة لبنان أنّهم في دائرة التهديد الوجودي، وصحيح أنّه أردف قوله بنفيٍ لإمكانية تحقق هذا الهدف، ولكن هذا التوصيف الآتي من معطيات جازمة وليس من انطباعات عامة، يفتح التساؤلات حول معالم هذا التهديد، وعن دور السلطة ومكونات الشعب اللبناني الأخرى في صنعه أونفيه، وكذلك تساؤلات حول سرّ هذا الاطمئنان بأن هذا التهديد لن يتحقق.

سرى تاريخياً في الأدب الشعبي اللبناني توصيف خاص لشيعة لبنان، وقد امتازوا به عن بقيّة أتباع المذهب في العالم، بأنّهم (متاولة)، وهو اختصار لشعار ساد بينهم خلال خوضهم المعارك القتالية، بأن مُت موالياً لعلي ابن أبي طالب(ع)، وهذا ما ذكره “الشيخ محمد عبده” إمام جامع الأزهر، الذي عاش بين شيعة لبنان لمدة غير قصيرة، وقد ورد ذلك في كتاب أعيان الشيعة للمؤرخ “السيد محسن الأمين”.

ويسري حالياً توصيف لشيعة لبنان عمل “الشهيد السيد حسن نصر الله” على تأكيده، بأنّهم (بقيّة السيف)، وذلك استناداً إلى تفسير ورد عن الإمام “علي ابن أبي طالب(ع)” في كتاب نهج البلاغة، حيث جاء فيه: بأنّهم الذين يبقون بعد الذين قتلوا في حفظ شرفهم ودفع الضيم عنهم، وفضّلوا الموت على الذل، فيكون الباقين شرفاء نجباء، ويصيروا أكثر عدّة وعدداً.

تلتقي كلا الصفتان على خاصيّة مشتركة لشيعة لبنان في تاريخهم الممتد منذ أن بايعوا علي(ع) على إمامتهم، وإلى الآن، بأنّهم جماعة مستهدفة في وجودها البشري ربطاً بانتماءها العقائدي، فهويّة الشيعة بحسب الباحث “روبير بندكتي” هي مقاومة الظلم والنضال من أجل الحق.

ويلتقي أكثر من اهتم بتاريخ لبنان، ومنهم “صابرينا ميرفان”، في كتابها حول حركة الإصلاح الشيعي، بأن النفوذ الشيعي مرّ في حقبات تاريخية متعددة كان فيها يعمّ معظم المناطق التي يتشكل منها لبنان الحالي. وفي تفسير لأسباب انهيار نفوذهم تتقاطع معطيات التاريخ على الآتي:

1- كانوا يوسمون بأنّهم روافض من غير مذاهب المسلمين.
2- إسقاط صفة الانتماء القومي عنهم، بأنهم فرس وليسوا عرباً.
3- وحدهم لم يكن لهم داعم خارجي خلافاً لكل المكونات اللبنانية.
4- حيلولة السلطة دون اتحاد مقاطعاتهم الجغرافية (جبل عامل، البقاع، جبل لبنان).
5- تهميش دور قياداتهم الدينية لصالح القيادات الزمنية الاقطاعية.

بدأت رحلة اضطهاد الموالين لعلي(ع) مع تشكّل الحكم الأموي في بلاد الشام، واستمرت مع العباسيين، ثم الصليبيين، وتابعها المماليك في حرب إبادة لهم، وبالتحديد في بلاد كسروان، حيث قاد مفتي التكفيريين” إبن تيمية” جيشاً جاء به من الشام، وارتكب فيهم مجازر فظيعة، ولم يكن حالهم أفضل خلال الحكم العثماني حيث عاشوا ويلات كبرى، حاول خلالها اجتثاث وجودهم البشري وهويتهم الدينية.

ومع سقوط الامبراطورية العثمانية وجد الشيعة أنفسهم في منطقة حاجزة بين نفوذ بريطاني اتخذ من فلسطين قاعدة بنى فيها كياناً لليمين اليهودي سماه “إسرائيل”، وبين نفوذ فرنسي اتخذ من تأسيس لبنان الكبير قاعدة له وركيزته اليمين المسيحي. وفيما راح اليمين اليهودي يسعى لتحقيق رغباته التوسعيّة للسيطرة على المناطق ذات الغالبيّة الشيعيّة (جبل عامل) لم يسجل التاريخ بأن اليمين المسيحي الحاكم للبنان قد وفّر لهذه المناطق الحماية الأمنيّة ولا عوامل الصمود الاجتماعي.

مجدداً، وجد الشيعة أنفسهم أمام مسؤولية كبرى لحماية وجودهم وحضورهم الفاعل، حصل ذلك مع بروز شخصيّة دينية رائدة ” الإمام السيد موسى الصدر” الذي راح يضطلع بهذه المسؤولية الكبرى مستعيناً بخطوات استراتيجية، وهي:
1- تقريب المسافة بين القيادات الدينيّة والزمنيّة داخل الشيعة.
2- توحيد الشيعة في مناطق انتشارهم الأساسيّة (جبل عامل، البقاع، جبل لبنان)
3- تأسيس حركة مقاومة عسكريّة وسياسيّة اتخذت من العداء لإسرائيل هدفاً أسياسياً.
4- إطلاق هدف إلغاء الطائفيّة السياسيّة لتثبيت لبنان وطن نهائي لجميع مكوناته.
5- الحلف مع سوريا بوصفها بوابة العمق العربي والمشرقي قبالة الهيمنة الغربية.

لقد دفع “الإمام السيد موسى الصدر” حياته ثمناً لهذه الرؤية الاستراتيجية عبر مؤامرة دوليّة وإقليميّة اختطفته وغيبته كلياً عام 1978، والتي تزامنت مع ثورة إسلامية في إيران أقامت دولة تعادي الهيمنة الأمريكية عام 1979. وسرعان ما توسعت هذه المؤامرة الكبرى للقضاء على منابع ومعاقل الاتجاه المقاوم الصاعد، نحو جمهورية مصر العربية عبر تغيير تموضعها من خلال اتفاقية كامب ديفيد عام 1978، وفي حرب فرضت على إيران بهدف إجهاض ثورتها عام 1980، وفي اجتياح العدو الإسرائيلي للبنان عام 1982.

وفيما اعتقد الغرب الأمريكي وحلفه اليميني بأن أمورهم تتجه نحو إقامة شرق أوسط خالٍ من المقاومة، عادت ثقافة المقاومة التي أحياها “الإمام الصدر” في لبنان لتفعل فعلها عبر الحلف مع سوريا والجمهورية الإسلامية في إيران المنتصرة على حرب إلغاءها، ما أحدث لاحقاً صدمة مدويّة للحلف الأمريكي تمثلت في تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي عام 2000، ومعها عادت المقاومة لتؤكد جدارتها في صنع التحرير خلافاً لاتفاقيات الاستسلام.

إنّ جرأة شيعة لبنان بعقيدتهم النهضوية المقاومة قد جعلتهم العدو الأول للأمريكي وحلفه اليميني العريض، ومعها، يبدو جلياً مستوى اليأس الذي بلغه الأمريكي في تطويعهم، حيث بدأ تفعيل كل سياسات الإلغاء الوجودي التي طبقت تاريخياً بحقهم، وذلك عبر خطوات ممنهجة يتم تنفيذها، وهي:
1- تحويل سوريا من حليف لهم إلى محاصر ومهدد لاستقرارهم.
2- إنهاء القضية الفلسطينية كونها تمدهم بالبعد العربي والإسلامي، وتزيد تقاربهم مع السنّة.
3- استنزافهم بشرياً واقتصادياً عبر حروب متنقلة في ظل إعاقة أي فرصة للإعمار.
4- اغتيال قادتهم باختلاف مستوياتهم، الدينية والسياسية والاجتماعية.
5- القضاء على حليفهم الأساس في إيران أو محاصرته للحيلولة دون مدهم بعوامل الصمود.
6- إيجاد شرخ بين مكوناتهم، وبينهم وبين المكونات اللبنانية الأخرى.

لقد بدا واضحاً، مستوى العجز لدى الحلف الأمريكي العريض عن تفسير معطيات تاريخ شيعة لبنان، وبالتحديد، في الجواب على سؤال جوهري: كيف يستطيعون بعد كل تحدٍ وجودي واجهوه خلال حقائب تاريخيّة متعاقبة، بأن يعودوا أكثر عدداً وحضوراً وانتشاراً وتأثيراً؟

إنّ مراكز دراسات الحلف الأمريكي وعمالقة باحثيه هم في عجزٍ دائم عن فك رموز هذه الأحجية التاريخية والمتجددة لدى شيعة لبنان، ويكمن في هذا العجز سراً من أسرار هذا البقاء المستعصي على بطشة السيف. فهم أعجز عن تفسير حال فرعون وهو يلاحق نبي الله موسى(ع) حيث رأى بأم عينيه البحر وقد انفلق له طودين عملاقين، ومع ذلك، فقد أصرّ هذا الطاغية على ملاحقة غريمه، الأضعف منه عدداً وعتاداً، فكان هلاكه.

والآن، هم كثرُ الذين يقولون لشيعة لبنان، إنّكم أصبحتم في مرمى الاستهداف الأول لهذا الحلف الأمريكي العريض، بكل اقتداره المادي وغير المادي، إنكم لمُدركون، محاصرون، لقد انتهى أمركم، فسلموا سلاحكم وأعلنوا استسلامكم ورضوخكم. وسيبقى هؤلاء يتعاملون بكل استهزاء، عندما يسمعون جواب المؤمنين، الصامدين، الصابرين: كلا، إنّ معنا ربّنا سيهدينا.

*استاذ جامعي وباحث في الاجتماع السياسي

المصدر: موقع المنار