السبت   
   27 12 2025   
   6 رجب 1447   
   بيروت 12:10

خاص | من لجنة فينوغراد إلى ميامي: نتنياهو الهارب من المحاسبة بـ “جثة”

تخيّل أنك في قلب العام 2066 أي بعد 40 عامًا افتراضيًّا، أمامك مليونا إنسان، يعيشون في مساحة لا تتجاوز الـ 356 كلم2، محاصرون بوابل لا يتوقّف من القنابل والصواريخ، يعانون الجوع، البرد القارص شتاءً، والنّار الملتهبة صيفًا، يواجهون إبادة جماعيّة ممنهجة لا هوادة فيها. لكن المفارقة الأكثر رعبًا، ليس الحصار نفسه، بل ورقة التّفاوض الأخيرة التي تقرّر مصيرهم: جثّة بشريّة.

“ران غفيلي” آخر جثّة صهيونيّة أسيرة في غزّة، وعصا “نتنياهو” الأخيرة -ربما- في قصر “ترامب”. وهذه ليست أسطورة قديمة أو خيالا علميا، وإنما واقع يحدث على أعتاب العام 2026.

نتنياهو وجثّة “ران” في ميامي

“سيد الأمن الصهيونيّ” كما يصف رئيس الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نفسه، والذي تحدّث منذ أيّام بعد حادثة “سيدني” مع يهود العالم، وقال لهم إنّ “المكان الوحيد الآمن لهم هو إسرائيل”، يسافر للقاء ترامب في منتجعه الفاخر في ميامي، مصطحبًا معه “تالي غويلي” والدة آخر جثّة صهيونيّة أسيرة عالقة في رمال غزّة.

يقف نتنياهو على أبواب ترامب، مستدرًّا عاطفته وعاطفة الشّعب الأميركي في محاولة يائسة أمام “رجل الصّفقات” وكأنه يقول لهم “انظروا أنا وحدي أقاتل من أجل شرق أوسط جديد، ومن أجل آخر جثّة”. لكن السؤال الحقيقي، إلى أيّ حدّ يمكن أن يؤثر ملف الجثث على مسارات التفاوض؟

يجيب الصحفي والمحلّل السياسي الفلسطيني “قاسم قاسم” في حديث لموقع المنار أنه “لن يؤثر موضوع الجثّة المتبقية في ملف التفاوض بين “حماس” والعدوّ الإسرائيلي؛ إذ إن المقاومة أبلغت الوسطاء أنها تبحث عن مكان دفن الجثّة، وقد أبدت جديّة في هذا الموضوع، إلا أن نتنياهو يستغلّ هذا الملف وهذه الجثّة لعدم الانتقال إلى المرحلة الثانية من خطّة ترامب لغزّة، ما يعني انسحاب جيش العدوّ الإسرائيلي إلى خلف الخط الأصفر”. معتقدًا “أنّ اتفاق وقف إطلاق النار بين حماس وكيان العدوّ سيستمر، وأنّ محاولات حكومة الاحتلال في المماطلة لن تنجح كثيرًا”.

وفي موازاة هذا الاستغلال السياسي، يتّضح أنّ رهانات نتنياهو لا تنفصل عن البيئة الأميركيّة التي يحاول مخاطبتها والضغط من خلالها. فالشّعب الأميركي الذي ذهب إليه نتنياهو، هو بمعظمه الشّعب الذي أنتج “التّرامبية السياسيّة” والتي بدورها أنتجت الوثيقة الاستراتيجيّة للأمن القومي الأميركي لعام 2026. وهي ليست مجرّد وثيقة أمنيّة، بل إعلان اقتصادي شامل عن نهاية مرحلة كاملة من النظام العالمي الذي هيمنت عليه الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة.

التحول الأميركي: وثيقة الأمن القومي الجديدة

الوثيقة من أوّل صفحة حتى آخر سطر فيها، تعكس قناعة الإدارة الأميركية بأن العولمة بصيغتها القديمة لم تعد تخدم الاقتصاد الأميركي، وأن استمرار الالتزامات الأمنية الواسعة لم يعد ممكنًا في عالمٍ يتغير بسرعة غير مسبوقة.

من هنا، تأتي أهميّة هذه الإستراتيجيّة الجديدة التي يمكن وصفها بأنّها أول وثيقة أميركية منذ 40 عامًا تعيد تعريف موقع الولايات المتحدة اقتصاديًّا في العالم، وتحدد معادلة مصالحها بصورة مباشرة وصريحة.

على مدى 50 عامًا كان الشرق الأوسط مركز السياسة الأميركيّة، بسبب النّفط وصراع القوى الكبرى، لكن الوثيقة الجديدة تقول بوضوح إنّ هذه الديناميكيات لم تعد موجودة؛ فالولايات المتحدة تنتج اليوم 12.9 مليون برميل يوميًا، وتقترب من الاكتفاء الذاتي، بينما يتجه الطّلب العالمي على النّفط إلى آسيا التي تستورد 70% من نفط الخليج.

وبالتّالي، لم يعد للولايات المتحدة دافع اقتصادي يمنح المنطقة مركزيّة كما في السّابق، وتصف الوثيقة الشّرق الأوسط بأنه: “منطقة شراكة لا منطقة التزام عسكريّ طويل الأمد”، والمعيار الوحيد هو: هل تقدّم هذه الدّولة قيمة اقتصاديّة أو إستراتيجيّة ملموسة للولايات المتّحدة؟ في هذا الإطار، يصبح مفهومًا كيف انعكس هذا التحوّل الأميركي على إدارة حرب الكيان نفسه، وعلى حدود ما سُمح لكيان الاحتلال بممارسته ميدانيًّا وسياسيًّا، وهو ما يشرحه “قاسم” في قراءته الواقع الميداني للحرب على غزّة ولبنان إذ يوضح أنّ “العدوان الصّهيوني كشف للعدوّ أن لقوته حدودًا، كما كشف أن للـ “المجتمع الإسرائيلي” قدرة على التحمّل.

لكن المفارقة بحسب “قاسم” أنه “ومع بداية العدوان، كان العدو يمتلك ضوءًا أخضرًا أميركيًّا ودوليًّا لفعل ما يشاء في المنطقة، وذلك بعد ما تعرّض له في السابع من أكتوبر؛ إذ كان التعاطف الدولي معه كبيرًا، خاصةً أنه لامس شعور التهديد الوجودي، ما جعل مجتمع العدوّ، يلتف حول جيشه وحكومته، إضافة إلى شعور الثأر الذي طغى حينها، السبب الذي سمح للعدوّ الإسرائيلي بفعل ما يشاء، بهدف إعادة الرّدع وإنهاء التهديدات المحيطة بالكيان”.

إلّا أنّ هذا الواقع لم يبقَ ثابتًا مع امتداد الحرب وحولته إلى عبء داخلي وخارجي على الكيان يشرح “قاسم” أنه “مع طول مدّة الحرب، وظهور حالة من الشّرخ داخل مجتمع العدوّ، وشعور جزء كبير من هذا “المجتمع” أن رئيس حكومتهم يماطل لأسباب شخصيّة لا تتعلق بأمن “الدولة” أو بالأسرى، بدأت حالة التكافل والالتفاف الاجتماعي بالانحسار”. بالإضافة إلى “المجازر التي ارتكبها العدوّ في غزة والتي ساهمت في وقف حالة التضامن الدولي التي كانت تحظى بها”.

أضف إلى ذلك، أن نتنياهو ليس أطول رؤساء حكومات الاحتلال عمرًا سياسيًا صدفة، بل نتيجة براعة في المناورة واستثمار ضعف الخصوم، وفي هذا السياق يرى المحامي والباحث السياسي الفلسطيني “صالح أبو عزة” في مقابلة مع موقع المنار أن ” نتنياهو ثعلب السياسية والحكم في الكيان، استطاع عبر تاريخ طويل من منافسة رموز تأسيسية، كشارون، بيريز، وغيرهم، أن يشكّل الائتلافات المتناقضة رغم تعقيدات المشهد، لكن هذا ليس شيكًّا على بياض بأنه قادر في ظل المتغيرات الداخلية والخارجية أن تقوده حيله من تحقيق ما يصبو إليه دائمًا”، معتبرًا أن “هناك نقطة مهمة تساعده في تجاوز تعقيدات المشهد، هو ضعف معارضة العدوّ، وليس متانة ائتلافه الحكومي”.

لذلك، فإنّ التزامات واشنطن التقليدية مثل حماية أمن كيان الاحتلال، أو ضمان أمن الممرات المائية لم تعد التزامات دائمة، بل “خطوط حمراء” تُدار بمرونة، وبأقل كلفة ممكنة.

وعلى الرّغم من ذلك، لا يتوقّف نتنياهو عن محاولته في إقحام ترامب بصورة مباشرة في خوض المعارك التي ينازع فيها على الجبهات السّبعة، والتي لطالما تباهى بأنّه يحقق الانتصارات فيها، وبأنّه ذاهب من بعدها نحو الانتصار “المطلق” و”الحاسم” في حرب القيامة. ولكن السؤال، لماذا لم يصطحب نتنياهو معه إلى ميامي جميع الأصوات “الإسرائيليّة” التي تطالب بتشكيل لجنة تحقيق رسميّة بشأن السابع من أكتوبر 2023؟

فينوغراد والازدواجية السياسية

في محاولة من رئيس حكومة الاحتلال الالتفاف حول هذه اللّجنة، والمراوغة على أمل أن يملّ “الإسرائيليّون” من هذه القضية، وتنتهي مع الوقت ذهب إلى تقديم اقتراح للكنيست بتشكيل لجنة من أعضائها، من دون الخبراء للتّحقيق في السابع من أكتوبر. وبالتالي، إخضاعها لحسابات سياسيّة تمنعها من التحقيق بشكل جديّ وتوجيه الاتهامات له، “ما يسمح للجاني بأن يكون القاضي والحَكَم” بحسب تعبير “قاسم قاسم”.

ومع أنّ لجنة فينوغراد التي شُكّلت في العام 2006 للتحقيق في أسباب هزيمة الكيان آنذاك، لم تكن رسميّة لكنّها استطاعت أن توجّه الاتهامات للمسؤولين السّياسيين والعسكريين، واستخلصت العبر التي قَدّمت لنتنياهو ما قدّمته في عدوانه على غزّة ولبنان، إلا أنّ رئيس حكومة الاحتلال لا يريد حتى لهذه اللّجان أن تتشكّل، وبالتّالي فهو ومن وجهة نظره، معنيّ بالدّرجة الأولى بأخذ العمليّة إلى التّوازنات السياسيّة الدّاخلية، حتّى يمنع الوصول إلى أيّ استنتاج يطال المستوى السّياسي.

في المقابل، وبعد الإنجازات التي يزعم نتنياهو أنه قدّمها لجمهوره، فإن “الإسرائيليين” يدركون تمامًا أنه وبعد عامين من القتال، ومع كل الشّعارات والوعود التي رفعها رئيسهم لهم، لم يصلوا معه إلى أيّ نتيجة، بل أغرقهم في النبذ العالمي، وكشفَ كذبة السّردية “الإسرائيلية” التي روجوا لها على مدار عقود.

سيّد الأمن” بلا إجابات

نتنياهو “سيّد الأمن” كما يصف نفسه، تعامل مع لجنة فينوغراد كأداة لإدانة حكومة أولمرت سياسيًّا، وركّز على فشل القيادة، ضعف الرّدع، وغياب المحاسبة، هو نفسه الذي يرفض تشكيل لجنة لمحاسبته والتحقيق في أكبر فشل أمنيّ وعسكريّ بتاريخ الكيان الصهيوني، وأكبر عدد قتلى “إسرائيليين”، وأوّل مرة يطال بها القصف قلب “إسرائيل” تل أبيب.

نتنياهو الذي اعتبر أن حكومة أولمرت قد أخذت وقتًا كافيًا يسمح لها بحسم الميدان في حرب الـ 33 يومًا على لبنان في تمّوز، هو نفسه الذي يصطحب معه إلى ميامي بعد عامين من حرب الإبادة الجماعية التي قادها بنفسه وتحت غطاء أميركي، “تالي غويلي” أم “ران غفيلي” آخر جثة صهيونيّة أسيرة عالقة في رمال غزّة.

المصدر: موقع المنار