في الذكرى الأولى لاتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان والاحتلال الإسرائيلي، يتكرر المشهد نفسه: التزام لبناني كامل يقابله آلاف الخروقات والاعتداءات الإسرائيلية التي لم تتوقف، من الغارات والاغتيالات وصولًا إلى استهداف الضاحية الجنوبية قبل أيام، ما أسفر عن مئات الشهداء والجرحى.
ورغم خطورة هذه الانتهاكات، يغيب أي تحرك فعلي من الأطراف الضامنة للاتفاق، الذي بقي حبراً على ورق أمام التصعيد المتواصل الذي يهدّد الاستقرار في لبنان.
فمع الساعات الأولى لليوم التالي لإعلان وقف إطلاق النار بين لبنان وكيان الاحتلال في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، شهدت القرى والبلدات الجنوبية مشهداً غير مسبوق منذ بدء العدوان، تمثّل بعودة كثيفة وسريعة للأهالي إلى منازلهم، وكأنهم كانوا ينتظرون هذه اللحظة بفارغ الصبر وبإرادة كلّها تحدٍ وثبات.
هذا المشهد من تدفّق الجنوبيين إلى قراهم حمل دلالات عميقة، إذ جاء بلا أي تردد أو خوف، ليؤكد مرة جديدة أن الجنوب ليس مجرد جغرافيا، بل هوية مقاومة راسخة وصلابة متوارثة عبر عقود.
عادت العائلات إلى بيوتها المدمّرة، إلى حقولها التي مرّ عليها حقد العدوان، إلى المدارس التي حاول العدو منعها من تلقين النفوس دروس الصبر والإيمان والمقاومة وحبّ الحياة وبناء المستقبل، عادوا إلى المساجد والكنائس وإلى كل زاوية من زوايا القرى التي انغرست في الوجدان.
لم يكن المشهد عاطفياً فحسب، بل رسالة سياسية واجتماعية واضحة: بأن لا تهجير في الجنوب، ولا مكان لسياسة فرض الوقائع، ولا لأي محاولة لاقتلاع الناس من أرضهم.
أما العودة السريعة للسكان، فلم تكن مجرد حركة طبيعية لناس يريدون الرجوع إلى بيوتهم، بل حملت معاني كثيرة، أبرزها أنها شكّلت استفتاءً شعبياً واسعاً على فشل الأهداف الإسرائيلية في العدوان الأخير، الذي كان يطمح إلى خلق مناطق عازلة أو فرض بيئة طاردة للسكان على الحدود، لكن ما حدث كان العكس تمامًا: فمع اللحظة الأولى لوقف النار، امتلأت الطرقات المؤدية إلى كل قرى الجنوب وصولاً إلى القرى الأمامية المحاذية لفلسطين المحتلة.
وأهم ما برز في هذا المشهد أنّ الناس، رغم حجم الدمار في بعض المناطق، عادوا دون انتظار تقييم الأضرار أو ضمانات دولية، ما يعكس درجة عالية من الثبات النفسي والاجتماعي، وثقة بأن الأرض التي صمدت تحت القصف ستعود إلى الحياة بمجرد عودة أهلها.
وكان العدوان الصهيوني قد شكّل اختباراً مهماً على مستوى الجبهة الجنوبية، فطوال شهرين كاملين من القتال العنيف والاعتداءات المتواصلة، حاولت القوات الإسرائيلية اختراق الخطوط الأمامية للقرى الحدودية أو تحقيق أي تقدّم ميداني يتيح لها تعديل قواعد الاشتباك أو فرض واقع عسكري جديد، لكن من دون أي جدوى.
فالمقاومة في الخطوط الأمامية، من عيتا الشعب إلى بليدا وميس الجبل إلى كفركلا والعديسة وصولاً إلى كفرشوبا والعرقوب، قدّمت صورة استثنائية من الصمود، ونجح المقاومون في: منع أي توغل بري داخل الأراضي اللبنانية، استهداف مواقع العدو وتحصيناته بما شلّ قدرته على المناورة، ضرب العمق الإسرائيلي حتى تل أبيب، وإفشال كل مخططات العدو لتغيير الواقع اللبناني خلال معركة “أولي البأس”.
هذا الأداء الميداني أعاد إلى الأذهان صمود تموز 2006، وإن كان بطبيعة مختلفة، لكنه كرّس حقيقة ثابتة مفادها أن أي عدوان على لبنان لن يمرّ دون كلفة باهظة على العدو، خاصة أن المقاومة حتى اللحظة الاخيرة استمرت بوتيرة ثابتة في الرد على العدوان وإطلاق الصواريخ نحو المستوطنات في شمال ووسط كيان العدو.
كل ذلك دفع بالعدو إلى طلب وقف العدوان عبر بوابة شريكه الأميركي، ومحاولة تحصيل ما عجز عنه في الميدان عبر السياسة، وصولاً إلى التلاعب بمضامين الاتفاق وتوسيع الاعتداءات لاحقاً. فاستغلّ العدو مهلة الـ90 يوماً التي يفترض أن ينسحب خلالها، ليرتكب تدميراً هائلاً في بعض القرى، ويواصل اعتداءاته في مختلف المناطق الجنوبية وصولاً إلى البقاع والضاحية الجنوبية لبيروت.
وما يزال العدو يحاول الاستفادة من الغطاء الأميركي عبر عرقلة إعادة إعمار ما دمّره العدوان، في محاولة للضغط على بيئة المقاومة، معتقداً أنه بذلك قد يحقق بعض المكاسب عبر إحداث ضغط داخلي على المقاومة وشعبها، لكن كل الضغوط التي مورست لم تُفلح في النيل من إرادة الناس التي تثبت الأيام مدى ثباتها وإخلاصها، وأنها حاضنة قوية للمقاومة في كل الظروف.
وهنا من المفيد الاشارة الى كلام سماحة الامين العام لحزب الله حجة الاسلام والمسلمين الشيخ نعيم قاسم في كلمته في 29-11-2024، حيث أكد “نحن امام انتصار كبير للمقاومة على العدو الاسرائيلي، انتصار اكبر من انتصار تموز مع كل التضحيات التي تقدمت وكل الدعم الغربي للعدو.. انتصرنا لاننا منعنا العدو من إنهاء حزب الله والمقاومة ومنعناه من تحقيق أهدافه…”، واضاف “كنت اريد ان ألقي كلمتي في يوم الاول للانتصار لكن رأيت الناس تعود الى قراها منذ اللحظة الاولى يعبرون عن مشاعرهم ويرفعون شارات النصر، فانتظرت لآخذ منهم مواقفهم وأعبر عنهم كي لا يكون الخطاب تعبويا”، وتابع “سمعت الناس كيف تتحدث عن الانتصار والعزة وكيف يتحدثون بكل ثقة انهم ضحوا وان كل ذلك فداء لروح السيد حسن نصر الله وانهم ربحوا رضى الله وكسبوا العزة ومن مات انتقل الى ربه شهيدا وان الناس تريد العيش حياة كريمة”.
