الأحد   
   16 11 2025   
   25 جمادى الأولى 1447   
   بيروت 13:33

خاص | محمد عفيف… صانعاً لرواية المقاومة من البدايات وحتى الرمق الأخير

مارس الحاج محمد عفيف فعل المقاومة بكل أزمنته وصيغه. يحضر سؤال في هذا السياق: عن عمره فيما أفناه؟ فتحكي سنواتٌ أربعون وربما أكثر أو أقل عن ثائر حمل البندقية في الميدان ليتقن بعدها فنون حرب الصوت والصورة، قائداً مؤسساً، ومؤمناً بأن خيار “المقاومة الإسلامية هو الرد” الوحيد على غطرسة العدو.

 كما أنه لم يرَ سوى بالمقاومة على اختلاف أشكالها العسكرية والسياسية والإعلامية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، رداً على من مضوا في طريق الاستسلام وعلى من “يراهنون على القرارات الدولية كسبيل للتحرير”، وأن “قوافل الشهداء تصنع النصر”،  كما قال “رفيق العمر منذ بدايات الشباب”، معاون رئيس المجلس التنفيذي في حزب الله الحاج عبدالله قصير في مقال في “صحيفة الأخبار” اللبنانية في 19 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، أي بعد يومين على شهادة عفيف بغارة اسرائيلية استهدفته مع رفاق أربعة وهم في ميدان الجهاد الإعلامي في منطقة رأس النبع في العاصمة اللبنانية بيروت.

هنا تأخذنا واقعة الرحيل، التي منحت الحاج محمد ما تمناه وحدث به نفسه عقب الغياب المرّ للأمين العام السيد حسن نصرالله، قائلاً “ولعلّي لاحق به عما قريب شهيداً في إثره فتستقر روحي”، تأخذنا إلى طرح سؤال آخر: هل اقتصر فعل مقاومته على ما مضى؟ أين هو من الحاضر ومما سيأتي؟ يأتي الجواب بكلمات الحاج محمد التي أطلقها بكل عنفوان وثقة برفاقه المجاهدين الأبطال على الجبهات، الذين تغنى، في مؤتمراته الصحافية فوق ركام الأبنية المدمرة في الضاحية الجنوبية في بيروت، ببأسهم ومنعهم العدو من احتلال ولو قرية واحدة رغم كل انجازاته التكتيكية، قائلاً “المقاومة أمة، والأمة لا تموت”.

عامٌ على استشهادك، ولم تمت. نراك متيقناً بقوة وأثر فعل الصمود والثبات. كنت تعلم جيداً أهمية الكلمة والصورة وأهمية اللجوء إلى العمل الإبداعي الذكي لنشرها وتقديمها بما يحقق الأهداف المرسومة، وفي تشكيل سيميائية  صورة تخدم خطط المقاومة في مخاطبة عدوها ومناصريها وحلفائها وفي طرح سرديتها.

هذا ما ترجمته عملاً دؤوباً منذ تأسيس حزب الله في كل مسؤولية حملتها قلباً وعقلاً، حكى عن بعضها، بعضٌ قليلٌ ممن عرفوك.

 مهندس إعلام المقاومة من البدايات وحتى الرمق الأخير

“من أقصى الحزن أتيت، لأغلق أبواب بيوت المهزومين، وأبشر بالإنسان”

تختصر هذه الكلمات من ديوان “قراءة في دفتر المطر” للشاعر العراقي مظفر النواب، الذي حفظ الحاج محمد عفيف العديد من قصائده الثورية، حسبما قال شقيقه الشيخ صادق، تختصر ما قام به الشهيد خلال الحرب الاسرائيلية الأخيرة على لبنان والمقاومة.

طوال خمسين يوماً، خرج الحاج محمد مثقلاً بفقد “سيده وروحه التي بين جنبيه” كما خاطبه في ذكرى يوم الشهيد العام الماضي، لكن هذا الحزن الكبير لم يمنعه عن أداء واجبه ومهمته في الحضور بما يليق بقوة المقاومة والتضحيات الجسام.

العودة ولو على عجل إلى مواقفه في أكثر من جولة ومؤتمر صحافي أثناء معركة “أولي البأس” تظهر ما أراده الحاج محمد، أولاً: دحض ومواجهة أكاذيب العدو على أكثر من صعيد إن كان بتبرير استهدافه الأبنية السكنية في ضاحية بيروت وتسميتها “منشآت وبنى تحتية عسكرية تابعة لحزب الله” أو من خلال ترويجه والإعلام الحليف له لسردية انتصاره وكسر المقاومة خصوصاً بعد استهداف قيادتها، ثانياً: بث روح العزيمة والثبات في نفوس بيئة المقاومة وحتى محبيها ومناصريها، وقد عكس ذلك في كل كلمة قالها، حتى بنبرة صوته وتعابير وجهه، وحتى بطبيعة المكان الذي اختاره لإلقاء الموقف، قرب الركام أو من بين أضرحة الشهداء.

وفي هذا السياق، أشار شقيقه الشيخ صادق، في مقابلة مع موقع المنار، إلى أن “أحد المسؤولين الكبار أخبرني كيف تواصل معه الحاج محمد قائلاً: “لا مجال للتردد، يجب علينا أن نكمل ونواجه بكل قوة حتى يخرج شعبنا منتصرًا من هذه المعركة”، مضيفاً أنه “نقلاً عن أحد الإخوة فإنه في أحد المؤتمرات الصحفية التي عقدها، تلقى تهديدات مباشرة، لكنه بقي ثابتًا، وأكمل كلمته، قائلاً لم تخفنا الصواريخ فكيف تخيفنا التهديدات؟”.

هنا استطرد الشيخ صادق بأن “الحاج محمد بالفعل ابن الميدان، فعندما بدأ الاجتياح الإسرائيلي، حمل البندقية وواجه العدو، ولم يشغله منصبه الإعلامي عن المشاركة الفعلية في بعض العمليات الأساسية”.

أما خلال معركة الإسناد، فقد كان الشهيد يزود الإعلاميين بالمعلومات باستمرار ضمن ما هو مسموح لما كان يمتلكه من قرب من مصادر  المعلومات.

من الخاتمة المشرفة نعود إلى البدايات.

وهنا روى الشيخ صادق لموقع المنار أن “الحاج محمد واكب فعليًا حركة بناء الإعلام في الحزب منذ بداياته، انطلاقًا من الصفر.

وبفضل جهده الخلاق وعلاقاته، ساهم بتأسيس فكر إعلامي للحزب، رغم وجود تردد تجاه هذه الخطوة حينها، سواء بسبب شروط السرية أو بعض القناعات الدينية”.

في الاحتفالات، لفت الشيخ صادق إلى أنه كان للحاج “دورٌ بارز فيها، رغم أنها كانت محدودة في بدايات انطلاق المقاومة”، كاشفاً عن تأسيسه “مركزًا إعلاميًا من أهم وأحدث المراكز في الجنوب خلال أيام الأمين العام الأسبق الشهيد السيد عباس الموسوي (رحمه الله)، حيث استأجر مستودعًا ضخمًا وقسمه إلى غرف متعددة، خصّص فيه غرفًا للتصوير الفوتوغرافي، وأخرى للإعلام المكتوب، وقد كانت صور عمليات المقاومة تصل إلى هذا المركز، حيث كان يتم تحميضها وإرسالها إلى جريدة “العهد” وبعض وسائل الإعلام الأخرى”، إذ لم يكن للمقاومة إذاعة أو تلفزيون وقتها.

ليساهم لاحقاً، حسب الشيخ صادق، في تأسيس إذاعة “صوت المستضعفين” (النواة الأولى لإذاعة النور)، خصوصاً لجهة البحث عم المواهب والكفاءات الشابة وتطورها.

عام 2005، تسلّم الحاج محمد إدارة الأخبار والبرامج السياسية في تلفزيون المنار، الذي سبق أن كان له دور مهم خلال فترة تأسيسها إذ “كان شريكًا في العديد من النقاشات والتصورات مع السيد عيسى الطباطبائي وكان خلف الكثير من الأفكار”، حسب شقيقه. هناك، وإضافة إلى “حضوره القيادي المميز، عُرف بقدرته على اكتشاف أصحاب الموهبة الواعدة وتشجيعهم ومنحهم الفرص للتطور والتقدم، إضافة إلى الإشادة العلنية بكل ما هو مميز وخارج الصندوق”.

حرب تموز 2006 كانت مفصلاً أساسياً في إدارة الشهيد الإعلامية، وعن ذلك روى مسؤول العمليات في الأخبار وقتها مروان عبد الساتر، في حديث لموقع المنار، أن “تلك الفترة كانت صعبة وقاسية للغاية، وكان من أبرز ما ميّز الحاج أنه لم يغادر غرفة الأخبار يومًا واحدًا، كان حاضرًا ليل نهار، وكانت همته منصبة على إيصال صورة السيد رحمه الله، ونقل أخبار المقاومة إلى الناس، ورفع المعنويات العامة”، مضيفاً “كان يوجه لنا تعليماته بأن نغادر المكان إذا جرى استهدافه، حتى لا نستشهد جميعًا أما هو فلم يكن يقبل المغادرة، مصراً أن يبقى هو ويخرج الجميع”.

في السنوات العشر الأخيرة، وحتى لحظة استشهاده تسلّم الحاج محمد إدارة وحدة العلاقات الإعلامية، التي برع فيها، إذ “كان المتابع الدائم والموجّه وصاحب الأفكار الإبداعية في تقديم صورة المقاومة وخطابها وبياناتها الرسمية عند كل حدث وموضوع”، حسب الحاج قصير.

لكن تجربة إدارة العلاقات الإعلامية، لم تظهر هذا الجانب فقط، بل شكلت مرحلة أساسية في تطوير مسار آمن الحاج محمد عفيف منذ زمن بأهميته وهو الانفتاح على وسائل الإعلام والإعلاميين من خارج منظومة الحزب.

عن ذلك، قال الشيخ صادق إن للشهيد دور هام في ادخال المقاومة في الثمانينيات والتسعينيات إلى الصورة الإعلامية اللبنانية، في وقت لم يكن أحد يتصور أن تذكر أسماء الشهداء في الصحف اللبنانية أو أن تُنشر صورهم”، متابعأً “كان يمتلك قدرة عالية على جمع الإعلاميين من مختلف الجهات، إذ كانوا يدركون أن الحديث مع الحاج محمد هو حديث مع شخصية موثوقة”.

كذلك، برع الشهيد النابلسي حتى قبل توليه مسؤولية العلاقات الإعلامية، في “جمع الصحافيين وتنظيم الجولات لهم”، كما “نظّم ثلاث أو أربع رحلات للإعلاميين، ضمت كل واحدة منها بين 250 و300 إعلامي وربما أكثر، منها خلال معركة “الجرود” وأخرى إلى الجنوب، وصولاً إلى التنظيم الإعلامي للمناورة الشهيرة “سنعبر” في منطقة عرمتى الجنوبية في أيار/مايو عام 2023.

لا يمكن الحديث عن دور الحاج في “الانفتاح الإعلامي للحزب” دون التطرق إلى تأسيس والإشراف على “اللقاء الإعلامي الوطني”، الذي جعل منه “إطاراً نشطاً ومحركاً وفاعلاً، يجمع عدداً كبيراً من الإعلاميين. وقد تمكن هذا اللقاء من لعب دور بارز في الساحة الإعلامية، حيث حرص الحاج محمد دائماً على أن يكون لقاءً جامعاً ووطني الطابع، معبّراً عن فكرة المقاومة”، قال منسق اللقاء سمير الحسن في تصريح لموقع المنار.

وتابع بأن ما ساهم في تطوير اللقاء أن الشهيد “كان ذو عقل منفتح ومرن، حريص على الجميع ومتفانٍ في مساعدة الآخرين، يتميز بشخصية شجاعة وذكاء حاد، قادر على التقاط أي لحظة وتحويلها إلى فرصة”.

مستشار السيد

في مقاله عن الشهيد، كتب الحاج عبدالله قصير “استمررت (الحاج محمد) بعد التحرير إلى جانب سماحة الشهيد الأقدس الحبيب السيد حسن نصر الله وفي مكتبه في حارة حريك، وكنت المستشار الإعلامي لسماحته تواكب حركته السياسية وإطلالاته الإعلامية، وتنظيم لقاءاته الصحافية”.

 تعود علاقة الحاج محمد عفيف الوثيقة بسماحة السيد والعديد من قادة المقاومة إلى أيام النجف الأشرف في العراق، “حيث كانوا شبابًا في مقتبل العمر. هذه العلاقة تعمّقت أكثر في لبنان مع انخراطهم جميعاً في مسيرة تأسيس المقاومة”، بحسب الشيخ صادق.

تولى الشهيد النابلسي لفترات هامة “الإشراف على جلسات تصوير السيد وما يدور خلف الكواليس”.

وفي هذا الإطار، لفت إلى أنه سكن شخصيًا مع شقيقه قرابة السنة بسبب دراسته، وشهد كيف كان سماحة السيد يتواصل معه لأوقات معينة للتنسيق الإعلامي، بشأن خطابات السيد، ويحرص على الاستماع إلى رأيه، خاصة أن الحاج محمد كان يتلقى اتصالات عديدة تلخص الأجواء الإعلامية، وكان ينقلها للسيد بصدق وشفافية.

خلال حرب تموز، عُرف أن الشهيد كان على اتصال مباشر بسماحة السيد. استذكر عبد الساتر حادثة استهداف مبنى المنار حينها، قائلاً إن “بعدها انتقلنا جميعًا إلى مركز بديل وكنا في نفس الغرفة، اتصل سماحة السيد بالحاج محمد في تلك الليلة للاطمئنان على الفريق والاطلاع على الأوضاع داخل المنار”.

كما تحدث عبد الساتر عن “وصول أول تسجيل لإطلالة سماحة السيد خلال حرب تموز”، مشيراً إلى أن “ضبط الإضاءة والصورة لم يكن مثالياً، في تلك اللحظة، تواصل الحاج محمد مع فريق سماحة السيد مناقشاً كيفية تحسين الصورة في المرات المقبلة، وأكد أهمية الانتباه لكل التفاصيل لأن صورة سماحة السيد تحمل في مضمونها معنى كبيرًا جداً لدى الجمهور”.

وعندما غاب السيد جسداً، وقد كان للحاج محمد عفيف حبيباً وسيداً وقائداً وروحاً، حول الأخير مرارة حزنه غضباً وبأساً تجاه عدو الأمة موقناً أن “الايمان كله برز للكفر كله”، كما أعلن، فكان “صورة عن حزب الله الذي يُقاتل العالم، خطابه لهو مثال عن الحرب بين الحقيقة والتضليل، الواقع مقابل الخرافة، الكلام المبرهن مقابل الثرثرة والبروباغندا” كما كتب عنه الصحافي بول مخلوف.

هو الذي أعلن في 22 تشرين الأول/اكتوبر من العام الماضي تبني المقاومة “عملية قيساريا”، مخاطباً رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو “عيون مجاهدي المقاومة الإسلامية ترى وآذانهم تسمع، فإن لم تصل إليك أيدينا في المرة السابقة فإن بينك وبيننا الأيام والليالي والميدان”.

دعنا يا حاج محمد نفكر خارج الصندوق، ونسألك أن تتلو علينا بياناً عن المقبل من الأيام والليالي والميدان، لأن آخر الصبر انتصار، وهذا وعد الله للمجاهدين في سبيله.

المصدر: موقع المنار