الإثنين   
   03 11 2025   
   12 جمادى الأولى 1447   
   بيروت 16:58

من هنيبعل إلى السجن… نتنياهو بين منطق القوة وحدود القانون

منذ أكثر من ثلاثة عقود، صاغت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية ما عُرف بـ«بروتوكول هنيبعل»، باعتباره إجراءً طارئًا لمنع وقوع الجنود في الأسر، حتى ولو اقتضى الأمر التضحية بحياتهم. غير أن هذا البروتوكول، الذي وُلد من رحم الهوس الإسرائيلي بفكرة «الردع»، تحوّل في السنوات الأخيرة إلى مرآة تكشف الانحدار الأخلاقي والسياسي داخل بنية القرار الإسرائيلي، خاصة حين تماهى مع حسابات بنيامين نتنياهو الشخصية.
فمن رفح عام 2014 إلى غزة بعد «طوفان الأقصى»، لم يعد «هنيبعل» مجرد إجراء ميداني، بل أصبح أداة سياسية في يد رئيس حكومة يبحث عن البقاء وسط عواصف الفشل والاتهامات. ومع تراكم الأدلة على مقتل أسرى إسرائيليين خلال القصف المتواصل على غزة، لم تعد المسألة محصورة في جدل عسكري أو أخلاقي، بل باتت تلامس جوهر القانون ذاته: هل يمكن لرئيس حكومة أن ينجو من المساءلة حين يأمر أو يسمح بقتل مواطنيه تحت راية «الأمن القومي»؟
بهذا السؤال، يتجاوز النقاش حدود الحرب إلى عمق الدولة، حيث يتواجه منطق القوة الذي حكم إسرائيل لعقود مع منطق العدالة الذي بدأ يطرق باب نتنياهو، ولو متأخراً

ما هو بروتوكول هنيبعل

الأصل التاريخي للاسم:
الاسم مستوحى من القائد القرطاجي الشهير هنيبعل برقة (Hannibal Barca)، الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد، وكان من أهم القادة العسكريين في التاريخ، اشتهر بخوضه حروبًا شرسة ضد روما وبأساليبه غير التقليدية في القتال ولكن
عندما وضع الجيش الإسرائيلي هذا البروتوكول عام 1986 ، اختار اسم «هنيبعل» كرمزٍ لعملية قاسية، حاسمة، وسريعة — تعكس فكرة عدم الوقوع في الأسر بأي ثمن.
الاختيار كان أيضًا مشفرًا: الاسم لا يكشف مضمونه الحقيقي (أي قتل الجندي إذا كان على وشك الأسر)، بل يوحي بعملية ذات طابع بطولي أو هجومي.

منذ تأسيسه، اعتمد الكيان الصهيوني على مبدأ «عدم ترك جندي في الأسر». لكن هذا المبدأ، الذي يفترض أن يحمي حياة الجنود، تحوّل عبر ما يُعرف بـ«بروتوكول هنيبعل» إلى صيغة مريبة تشرّع قتل الجندي نفسه حتى لا يقع أسيرًا بيد العدو.

وُضع «بروتوكول هنيبعل» عام 1986 بعد سلسلة من عمليات الأسر التي نفذتها المقاومة اللبنانية والفلسطينية ضد جنود إسرائيليين. يقضي هذا البروتوكول بأنه في حال محاولة أسر جندي، يجب على القوات الإسرائيلية منع العملية بكل الوسائل الممكنة، حتى لو أدى ذلك إلى مقتله. أي أن القتل في هذه الحالة يُعد «خيارًا مشروعًا» داخل العقيدة العسكرية الإسرائيلية، لأنه – بحسب منطقها – يمنع العدو من امتلاك ورقة مساومة سياسية أو عسكرية.

من الناحية العسكرية، يُفترض أن يُفعَّل «هنيبعل» فقط في لحظة الأسر، أي خلال الدقائق الأولى من وقوع العملية، حين لا يزال الجندي في مرمى النار أو على وشك نقله إلى داخل الأراضي المعادية. لكن خلال العقود الأخيرة، توسّع تطبيق هذا البروتوكول ليشمل حالات أكثر غموضًا، وغالبًا ما أدى إلى قصف عشوائي لمناطق مأهولة بالمدنيين.

أبرز مثال على ذلك كان خلال عدوان 2014 على غزة، عندما فُعِّل «هنيبعل» في رفح عقب أسر الجندي هدار غولدن، فأمطرت الطائرات المدينة بالقنابل خلال ساعات قليلة، ما أدى إلى استشهاد أكثر من 130 فلسطينيًا. حينها اعترف قادة إسرائيليون بأن البروتوكول خرج عن السيطرة، وأن «الهوس بمنع الأسر» تحوّل إلى مجزرة.

غزة 2023 عودة روح هنيبعل

مع عملية «طوفان الأقصى» في 7 تشرين الأول 2023، دخل الجيش الصهيوني حالة من الفوضى والذهول. مئات الجنود والمستوطنين أُسروا واقتيدوا إلى داخل غزة. وفي تلك الساعات الأولى، أظهرت مقاطع مصوّرة وتسجيلات لاسلكية أن وحدات إسرائيلية فتحت نيرانها عشوائيًا على سيارات ومناطق كان يُعتقد أن مقاتلين من حماس ينسحبون منها ومعهم أسرى إسرائيليون

هذه المشاهد أعادت إلى الأذهان «روح هنيبعل» وإن لم يُعلن تفعيلها رسميًا. لاحقًا، بدأت التسريبات تشير إلى أوامر ميدانية استخدمت عبارات مثل «استخدموا كل القوة المتاحة»، وهي عبارة مشفّرة عادة لتطبيق البروتوكول ضمنيًا.

نتنياهو بين السياسة والجيش

استمرارا لما كان عليه الحال في حروب سابقة، خرجت تسريبات وتحليلات تقول ان بنيامين نتنياهو اعطى تعليمات سياسية واضحة حول تطبيق هنيبعل . مع ترك القرار للميدان. لكن مع اتساع أزمة الأسرى وبدء احتجاجات عائلاتهم داخل الكيان الصهيوني، وجد نتنياهو نفسه بين مطرقة الضغط الشعبي وسندان المؤسسة العسكرية.

صمت  نتنياهو بل بارك عمليات القصف التي طالت مناطق يُعتقد بوجود أسرى فيها، في محاولة ليظهر صلابة في مواجهة حماس. لكن مع مرور الوقت، بدأ يدرك أن صور القتلى من الأسرى قد تتحوّل إلى كابوس سياسي داخلي، فتبنّى خطابًا أكثر حذرًا، معلنًا أنه «لن يضحّي بالأسرى».

من منع الأسر إلى قتل الأسرى

المعضلة الكبرى بالنسبة للداخل الاسرائيلي أن بعض هؤلاء الأسرى لم يُقتلوا أثناء محاولات إنقاذ فاشلة، بل بعد أكثر من عام على أسرهم، خلال غارات مكثّفة على مواقع يُعتقد أنهم محتجزون فيها. وهنا تجاوز نتنياهو وقيادته حتى نصّ «هنيبعل» نفسه.

البروتوكول الأصلي يسمح بقتل الجندي أثناء محاولة أسره، لكنه لا يجيز مطلقًا قتله بعد أن أصبح أسيرًا فعليًا. فالأسير في هذه الحالة خرج من القتال، وأي استهداف له يُعد جريمة حرب بموجب اتفاقيات جنيف.

لكن في الميدان الغزّي، بدا أن هذه الخطوط قد تلاشت. فعمليات القصف التي نفذها الجيش الصهيوني، بأوامر من القيادة السياسية، أصابت أماكن احتجاز ، ما أدى إلى مقتل عدد من الأسرى.

بين الأسماء التي أكّدها الكيان و الإعلام العبري عن أسرى قتلوا بقصف اسرائيلي مباشر ( هآرتس ويديعوت أحرونوت والقناة 12 ) :

خرق القوانين والحدود

بالنسبة للقانون في الكيان الصهيوني فان قرارات نتنياهو تشكل خرقًا لعدة مستويات من التشريعات:

  1. القانون الجنائي الإسرائيلي الذي يُجرّم القتل العمد لأي مواطن.
  2. قانون الجيش الذي يُلزم القادة بحماية حياة الجنود لا تعريضهم للخطر المتعمّد.
  3. القانون الدولي الإنساني الذي يحظر قتل الأسرى أو تعريضهم للخطر بعد خروجهم من القتال.

وبناء على هذه الخروقات خرجت اصوات داخل الكيان تطالب بلجنة تحقيق برلمانية لتحديد ما إذا كانت الحكومة قد فعّلت أوامر مخالفة للأخلاق والقانون العسكريين، وما إذا كان نتنياهو يتحمّل مسؤولية مباشرة عن مقتل بعض الأسرى ومن ضمن المطالبين عائلات الأسرى ضمن “منتدى عائلات المحتجزين والمفقودين” بالاضافة لنواب من المعارضة الإسرائيلية، أبرزهم: يائير لابيد  (زعيم حزب “يش عتيد”) (تايمز أوف إسرائيل – 2 تموز 2024) / و ميراف ميخائيلي (رئيسة حزب العمل) (واينت نيوز – 10 تموز 2024)/ غادي آيزنكوت (عضو الكنيست والجنرال السابق في الجيش) (هآرتس – 5 تموز 2024)  و عدد من كبار الضباط المتقاعدين، منهم موشيه يعالون   (تايمز أوف إسرائيل – 21 تموز  2024) وإيهود باراك (هآرتس – 15 تموز 2024)

ما الذي قد يواجهه نتنياهو قانونياً؟

  • تهمة القتل العمد :عقوبة محتملة: السجن المؤبد (وفق قانون العقوبات الإسرائيلي).
  • تهمة القتل غير العمد / الإهمال الجسيم  عقوبات سجنية طويلة (عشرات السنين).
  • تهمة إساءة استخدام السلطة / خرق الثقة عقوبات جنائية/سجن ومنع من الترشح.

حسابات القوة والسياسة

التحليلات الإسرائيلية نفسها تكشف أن نتنياهو كان مدفوعًا بعدة  اعتباراتجعلته يفرط بحياة الاسرى في مقابل الحفاظ على نفسه ومن هذه الاعتبارات :

  1. لا لاضعاف صورته : أراد أن يُظهر أنه لا يخضع لمنطق «الأسرى والصفقات» الذي يُضعف صورته أمام اليمين.
  2. منع صفقة بشروط حماس: أي صفقة تبادل كانت ستفرض عليه وقف إطلاق النار وانسحابًا جزئيًا من غزة، وهو ما اعتبره هزيمة سياسية لذا كان يفضل قتل الاسرى اما بالقصف المباشر او من خلال العمليات العسكرية  ( وهو ما حصل في نهاية المطاف عبر عملية تبادل وايقاف الحرب وانسحاب القوات الاسرائيلية من أجزاء من غزة )
  3. البقاء السياسي: في ظل ضغط شركائه اليمينيين، فضّل التضحية بالأسرى على أن يبدو «ضعيفًا» أمام المعارضة أو المقاومة.
  4. شيطنة المقاومة : موت الأسرى داخل غزة  خصوصاً في ظروف ضبابية  سمح لنتنياهو بأن يُلقي المسؤولية على حماس، ويستثمر المأساة في شيطنة الحركة أمام الداخل الإسرائيلي والرأي العام الغربي.
    في المقابل، كان يعلم أن أي صفقة تبادل ستعيد إلى حماس جزءاً من الشرعية والقدرة التفاوضية، ما يقوّض روايته بأن الحرب “قضت على حماس”.
  5. حساباته الشخصية : نتنياهو في تلك المرحلة كان يواجه:
  6. تحقيقات داخلية بتهم فساد.
  7. تراجعاً في شعبيته بسبب فشل 7تشرين /أكتوبر.
  8. تفكّكًا داخل حكومته بين المتطرّفين والعسكريين.

مقتل الأسرى (من دون أن تُحمّله المسؤولية المباشرة) وفّر له مهرباً سياسياً حيث أبقى الحرب مستمرة ما أزاح التركيز عن محاكمته وحول السؤال حول من يتحمل مسؤولية فشل الامن الى كيف ننتقم للاسرى .

كيف يمكن أن يحمي نفسه بعد الحرب؟

سياسيًا وقانونيًا لدى نتنياهو أدوات عدة للتخفيف من خطر المساءلة: إطالة زمن التحقيق، طلب الحصانة البرلمانية، سعي لتعديل منظومة القضاء أو التأثير على التعيينات، تصنيف وثائق بالسرية الأمنية، التوصل إلى تسويات مع العائلات، وتغيير السرد العام. بعض هذه الوسائل فعّالة على المدى القصير؛ لكن أي محاولة ظاهرة لتركيع القضاء أو تعطيل المساءلة قد تولّد ردة فعل داخلية ودولية.

خاتمة

قضية «هنيبعل» في زمن نتنياهو تكشف الوجه الحقيقي لمجرم يتجاوز الحدود الأخلاقية والقانونية.حين يُضحّى بحياة الجنود والأسرى من أجل الحفاظ على صورته السياسية، يتحول زعيم الكيان المؤقت إلى مجرم حرب في عيون ما يسمّى بالقانون داخل الكيان.

الأوامر التي صدرت عن نتنياهو، أو التي صمت عنها، أدّت إلى مقتل أسرى تحت القصف الإسرائيلي، بما يتجاوز حتى بروتوكول «هنيبعل» العسكري نفسه.
هنا لا نتحدث عن «خطأ تكتيكي»، بل عن استراتيجية قائمة على القتل السياسي لحماية نفسه.

هذا كلّه والحديث ينحصر بثلاثة أسرى لدى حماس.. فيما القانون لا يحرك ساكناً في العالم إزاء بروتوكول نتنياهو الذي أدّى إلى استشهاد أكثر من 67 ألف مواطن فلسطيني.

المصدر: موقع المنار