لم يعد ما يجري على الساحة اللبنانية مجرد دعم سياسي أو لوجستي من واشنطن لتل أبيب، بل أصبح عدوانًا مباشرا ومعلنًا تشارك فيه الولايات المتحدة إلى جانب كيان العدو الإسرائيلي ضد لبنان، فالمعطيات التي بدأت تتكشف مؤخرًا تُظهر أن الدور الأميركي في الحرب لم يعد في الكواليس، بل بات ميدانيًا، من داخل غرف القيادة الإسرائيلية، وبمشاركة ضباط أميركيين يشرفون على كل تفصيل من تفاصيل العدوان.
وفي هذا السياق، كشفت قناة “كان” العبرية أن ضباطًا أميركيين يتمركزون داخل مقر القيادة الشمالية التابعة لجيش العدو الإسرائيلي في صفد المحتلة، حيث يتابعون العمليات ضد لبنان لحظة بلحظة، ووفق القناة، فإن هؤلاء الضباط يشرفون على الاعتداءات الإسرائيلية في العمق اللبناني، والأخطر فيما كشفته القناة هو أن كل اعتداء على لبنان لا يُنفّذ إلا بعد الحصول على “ضوء أخضر” أميركي يُمنح قبل الضغط على الزناد، ما يعني أن القرار بالعدوان مشترك، والتنفيذ يتم تحت الإشراف الأميركي الكامل.

ولم يكن هذا التدخل الاميركي الأول من نوعه في العدوان على لبنان، فالقناة الصهيونية نفسها كانت قد أكدت خلال العدوان على غزة أن ضباطًا أميركيين أشرفوا من داخل مقر قيادة الجبهة الجنوبية على “العمليات العسكرية”، بما في ذلك تطبيق وقف إطلاق النار، واليوم، يتكرر المشهد نفسه على الجبهة اللبنانية، في تأكيد جديد على أن الولايات المتحدة ليست وسيطًا ولا راعيًا لأي تسوية، بل شريك أساسي في إدارة العدوانين على غزة ولبنان.
وقد تلا ذلك جولة المبعوثة الاميركية مورغان اورتاغوس على الحدود اللبنانية الفلسطينية برفقة وزير الحرب الاسرائيلي يسرائيل كاتس وعدد من قادة جيش العدو، في إشارة واضحة الى الانحياز الاميركي التام لمصلحة العدو، بالاضافة الى ما تم تسريبه في بعض وسائل الاعلام عن تهديد جديد وجهه المبعوث الاميركي توم براك الى اللبنانيين بضرورة “الانصياع خلف الاوامر الاميركية بالدخول في مفاوضات مباشرة مع العدو او يترك لبنان لمصيره بمواجهة الاعتداءات الاسرائيلية”.

هذا الانكشاف الفاضح للدور الأميركي يطرح أسئلة مصيرية حول صدقية واشنطن في ادعائها السعي إلى التهدئة، وحول قدرتها على لعب دور الوسيط بين لبنان والعدو الإسرائيلي، فكيف يمكن للبنان أن يثق بوساطة من يشارك في قتله؟ وكيف يمكن الحديث عن ضمانات أميركية لحماية لبنان من العدوان الإسرائيلي، فيما أميركا نفسها تُشرف على هذا العدوان وتمنح الإذن بتنفيذه؟
الأخطر من ذلك، أن هذه الحقائق تضع بعض القوى السياسية اللبنانية، التي ما زالت تراهن على “الضمانة الأميركية”، أمام مسؤولياتها، فهل يجرؤ من يرفع شعار السيادة على إدانة واشنطن بعدما تبيّن أنها شريكة في الاعتداء على السيادة اللبنانية؟ وهل سيظل هؤلاء صامتين أمام الوقائع التي تثبت أن العدوان على لبنان يُدار بقرار مشترك من واشنطن وتل أبيب؟
إن ما يحصل اليوم ليس مجرد تواطؤ أو دعم خلفي، بل هو تحالف عسكري مباشر ضد لبنان، فالولايات المتحدة التي تدّعي الحرص على استقرار المنطقة ومنع التصعيد، تشارك عمليًا في قصف الأراضي اللبنانية وتغطي الانتهاكات الإسرائيلية سياسيًا وعسكريًا وإعلاميًا، ورغم كل ذلك، لا تزال بعض الأصوات في الداخل اللبناني تروّج للرهان على “الحماية الأميركية” وعلى “الدعم الدولي”، متجاهلةً أن من يعتدي لا يمكن أن يكون في الوقت نفسه ضامنًا للأمن أو شريكًا في ما يسمى “السلام”.

حول ذلك، قال الخبير العسكري والاستراتيجي العميد محمد عباس إنّه “منذ بداية العدوان لم تنقطع مشاركة الضبّاط الأمريكيين في إدارة وتخطيط العمليات، إلى جانب الدعم اللوجستي من ذخائر ومعدّات وغيرها”، وتابع: “منذ اليوم الأول لبدء طوفان الأقصى، شارك القادة العسكريون الأمريكيون في العدوان الإسرائيلي، وقد تحدّثت وسائل إعلام عن إرسال نحو 800 طائرة و60 سفينة لنقل الذخائر والمعدّات إلى الكيان الإسرائيلي خلال العدوان على غزّة ولبنان”.
ورأى عباس، في حديثٍ لموقع قناة المنار الإلكتروني أنّ “الكيان الإسرائيلي يعتبر حربه الحالية وجوديّة، وكذلك الغرب والولايات المتحدة يرون أنّ هزيمة إسرائيل تعني تضرّر مصالحهم في المنطقة”، وأضاف: “هم يعتبرونها معركةً استراتيجية للحفاظ على نفوذهم، ويرون أنّ غياب إسرائيل سينعكس بتراجع الهيمنة الغربية والأمريكية في الشرق الأوسط”، ولفت إلى أنّ “العدوّ يواصل اعتداءاته بشكلٍ مخالف للقرار 1701 ولإعلان وقف إطلاق النار الذي ينصّ على انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان، بينما التزمت المقاومة، وأكّد الجيش اللبناني نشر قواته في منطقة جنوب نهر الليطاني”.
وأكّد عباس أنّ “الوجود الأمريكي في غرف العمليات أو على الحدود ليس أمرًا جديدًا، فواشنطن تسعى باستمرار إلى فرض شروطٍ سياسية على لبنان من خلال الأعمال العسكرية التي ينفّذها الكيان الإسرائيلي، وتستمرّ في الضغط عبر المشاركة المباشرة وغير المباشرة في التخطيط والتنفيذ”، وشدّد على أنّ “الولايات المتحدة ليست وسيطًا نزيهًا بين العرب والكيان الإسرائيلي، فالوساطة الأمريكية تخدم تلقائيًا المطالب الإسرائيلية، كما حدث في اتفاقية أوسلو، حيث تمّ تأجيل الكثير من القضايا الأساسية للحلّ النهائي، ولم يتم تنفيذ البنود المتعلقة بالإعلان الفعلي للدولة الفلسطينية، وقام الأمريكي بتغطية المطالب الإسرائيلية على حساب الحقوق العربية”.

ولفت عباس إلى أنّه “في ما يخصّ الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة، تكتفي السلطات الرسمية في لبنان بتقديم الشكاوى إلى الولايات المتحدة وليس إلى الأمم المتحدة، في حين تواصل إسرائيل افتعال أحداثٍ صغيرة وتضخيمها للحصول على غطاءٍ دوليٍّ ومزيدٍ من الحماية الأمريكية، مع استمرار ارتكاب الجرائم والانتهاكات في غزّة ولبنان والضفة الغربية المحتلّة”، وأضاف: “على الرغم من وجود المقاومة اللبنانية وتضحياتها، يبرز توجّه من بعض الأطراف اللبنانية للتقليل من تلك التضحيات وربطها فقط بفئةٍ أو طائفةٍ معيّنة، في حين أنّ المقاومة مشروعٌ وطنيٌّ يشمل كلّ اللبنانيين، ويتطلّب دعمًا من مختلف القوى والطوائف لحماية لبنان وسيادته”.
وعن مسؤولية واشنطن المشتركة عن جرائم العدوّ، قال عباس إنّ “إسرائيل تتجاهل القوانين والقرارات الدولية بموافقةٍ أمريكية، مهما بلغت الانتهاكات والجرائم، حيث تواصل واشنطن تغطية كلّ تصرّفات الكيان وتعطيل تنفيذ القرارات الدولية، ما يجعلها شريكةً في المسؤولية عن الجرائم ضد المدنيين، سواء في لبنان أو فلسطين”، وأشار إلى أنّه “يجب على الحكومة اللبنانية أن تقدّم الشكاوى إلى مجلس الأمن عند كلّ اعتداء، وألا تقتصر في تعاملها على الوساطة الأمريكية التي أثبتت انحيازها وتقاعسها عن حماية مصالح لبنان”، وأضاف أنّ “تواطؤ الإدارة الأمريكية وتغلغل اللوبي الصهيوني في المؤسسات الأمريكية يمنح إسرائيل غطاءً كاملًا، ويجعل الحلول السياسية رهينةً للضغط الأمريكي لا لمصلحة شعوب المنطقة”.
وختم عباس بالقول “في ظلّ هذا المشهد، تظلّ المقاومة اللبنانية حارسةً للسيادة الوطنية، ويجب على كلّ القوى الوطنية، الرسمية والشعبية، أن تتكاتف في مواجهة العدوان، وألا تسمح بتحويل المعركة إلى صراعٍ داخليٍّ أو طائفيّ، فلبنان يحتاج إلى مواقف رسمية حاسمة ودعمٍ متواصلٍ لمقاومته من كلّ أبنائه، دون تفريقٍ أو تسييسٍ للموقف الوطني”.
وبنفس هذا السياق، قال رئيس كتلة “الوفاء للمقاومة” النائب محمد رعد في كلمة في 1-11-2025 “صار لازما خصوصا بعد إقرار الرئيس الأميركي علنا بشراكته للعدو الصهيوني بتنفيذ مجزرة البيجر أن ندين الإدارة الأميركية ونشكك بمصداقية ادعائها الصداقة للبنان”، واكد ان “الإدارة الأميركية هي راعية وحامية الإرهاب الصهيوني وشريكته في الاعتداء على لبنان وهي لا تخفي أبدا انحيازها للعدو ودفاعها عن مشاريعه التوسعية في المنطقة”.

يبقى ان ما كشفته التقارير الإسرائيلية يجب أن يكون جرس إنذار للبنانيين جميعًا، ولمن يزايدون بشعارات السيادة والاستقلال، فالحقيقة اليوم واضحة: العدوان على لبنان أميركي–إسرائيلي مشترك، يُدار من غرفة عمليات واحدة، وتُرسم خططه على الطاولة نفسها، بينما يُستهدف الوطن وشعبه كل يوم تحت ذرائع مختلفة، فكيف يبرر البعض مواصلة رهانه على أميركا أو صمته أمام هذا العدوان الموصوف؟
المصدر: موقع المنار
