بعد سنتين من العدوان الصهيوني المفتوح على قطاع غزة، تم التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية أميركية ووساطة مصرية، تركية، قطرية، بما يحدّ من تحشيد آلة القتل الصهيونية، رغم الكثير من الخروقات اليومية للالتزامات المفروضة على هذا العدو، حيث أثبتت التجارب الطويلة معه أنه لا يلتزم بعهدٍ أو ميثاق، على الرغم من التزام الأطراف الأخرى، كما هو الحال في لبنان وغزة وغيرها من التجارب.
ولعلّ أبرز مثال على انتهاك العدو لالتزاماته، هو ما حصل خلال الفترة الممتدّة منذ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في غزة حتى تاريخه، حيث ارتكب سلسلة من الخروقات الخطيرة والمتكرّرة، بلغت ما يقارب 50 خرقًا موثّقًا حتى مساء يوم الإثنين 19-10-2025، شنّ خلالها العدو اعتداءات فاضحة للاتفاق، أدّت إلى استشهاد 44 فلسطينيًا وإصابة العشرات.
وهذه الخروقات الإسرائيلية لاتفاق وقف إطلاق النار تُظهر مدى هشاشة الضمانات التي تقدّمها الدول الراعية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية. فرغم كل ما قيل عن رعاية غربية وعربية وتركية للاتفاق، وجهود الوساطة التي بُذلت، لم يصمد الاتفاق أمام غطرسة العدو، الذي لا يُقيم اعتبارًا لأحد في ظلّ الرعاية والغطاء الأميركي له.

لكن مجرّد إذعان العدو لوقف العدوان، وحشد الدول، وعلى رأسها الإدارة الأميركية، لحصد بعض نتائج هذا الأمر، مع زعم كل طرف أنه ساهم في وقف العدوان وإنهاء معاناة الشعب الفلسطيني في القطاع المحاصر — وما يزال — فإن هذا الإذعان لا يمكن أن يكون عابرًا مع عدو لديه كل هذا الغطاء المفتوح على مدى سنتين لارتكاب كل ما يمكنه من جرائم الحرب والإبادة والتجويع.
فماذا يعني وقف العدوان على غزة -إذا صمد والتزام به العدو-؟ وأي انتصار حققته المقاومة؟ وما هي دلالات هذا الانتصار؟ وكيف يمكن صرف ذلك في المستقبل؟ وكيف يمكن الاستفادة مما تحقق سياسيًا وميدانيًا في المستقبل لإعادة ترميم قوة الردع لدى المقاومة في مواجهة هذا العدو المتوحّش؟
حول كل ذلك، أكد الباحث في الشأن الصهيوني أيمن علامة أن “هجوم 7 أكتوبر 2023 شكّل أكبر ضربة تلقّاها الجيش الإسرائيلي منذ قيام الكيان، وأسفر عن انهيار في العقيدة الأمنية والعسكرية وفشل استخباراتي واضح”، وأشار إلى أن “حكومة نتنياهو أعلنت بدء حرب بهدف القضاء على حماس وإعادة الأسرى، لكنها سرعان ما أضافت أهدافًا جديدة، منها منع أي حكم لحماس أو للسلطة الفلسطينية في غزة، وتهجير السكان”.

وفي حديث لموقع قناة المنار الإلكتروني، استعرض علامة “مجموعة من الخسائر التي لحقت بكيان العدو خلال عامين من العدوان، منها: سقوط ركائز العقيدة القتالية، تفاقم الأزمات البنيوية في المجتمع الإسرائيلي، تبادل الاتهامات بين المؤسستين العسكرية والسياسية، استقالات في أجهزة الدولة، إعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة عربيًا وعالميًا، تصاعد العزلة الدولية على إسرائيل”.
ورأى علامة أن “السبب الأهم لتوقف الحرب هو فشلها في تحقيق أهدافها”، وأوضح أن “إسرائيل لم تحقق شيئًا من أهدافها، لا على صعيد القضاء على حماس ولا في التهجير والاستيطان، وأن خطة ترامب لوقف الحرب لم تُنفّذ بالكامل، إذ تعارض حماس المرحلة الثانية منها، التي تتعلق بنزع سلاحها”، وأشار الى ان “الحكومة الإسرائيلية تلتزم فقط بالمرحلة الأولى من الخطة، بينما يلوّح وزراء مثل بن غفير وسموتريتش بإسقاط الحكومة إذا لم يتم نزع سلاح حماس، وسط مؤشرات على خسارة نتنياهو في الانتخابات المقبلة”.
فلا شكّ أن وقف العدوان لا يعني فقط توقف القصف والغارات المتواصلة لطيران العدو، بل يحمل دلالات سياسية وعسكرية مهمة، منها:
-فشل العدو الإسرائيلي في تحقيق أهدافه العسكرية أو السياسية التي أعلنها على مستوى إنهاء حالة المقاومة، ونزع سلاح كتائب القسام وسرايا القدس وغيرها من فصائل المقاومة.
-صمود المقاومة بكل فصائلها، وعلى رأسها حركتا حماس والجهاد الإسلامي، وعدم انهيارها رغم كثافة النيران وارتكاب جرائم فظيعة بحق المدنيين.
-تراجع الاحتلال تحت الضغط، سواء من صمود غزة، أو بفعل ضغوط دولية باتت واضحة لدى الشعوب أكثر مما هي واضحة لدى الأنظمة والحكّام الذين يخضعون للضغوط الأميركية والإسرائيلية.
-اعتراف ضمني بوزن المقاومة، وأنها أصبحت طرفًا لا يمكن تجاوزه في أي حلّ قادم. هذا الأمر لا يقتصر فقط على العدو، بل أيضًا على من رعى اتفاق وقف النار، وفاوض حماس والمقاومة لإطلاق سراح الأسرى الصهاينة وجثث قتلاهم.
-إن وقف العدوان هو نتيجة لمعركة إرادات، فمن يفرض شروطه يكون هو الطرف المنتصر، حيث لا تُقاس الأمور بحجم الخسائر أو التدمير أو قتل المدنيين.

ورغم فارق القوّة العسكرية الكبير بين كيان العدو (وكل الدول التي تقف خلفه في العالم، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية) من جهة، ومن جهة ثانية قوى المقاومة، استطاعت المقاومة في غزة أن تحقق أشكالًا متعددة من الانتصار، منها:
-صمود الجبهة الداخلية الفلسطينية، وخاصة في غزة، وعدم انهيار بنية المقاومة.
-استنزاف جيش العدو في الاشتباكات المباشرة، وحرب الأنفاق، والمدن، والأحياء المدمّرة، وتكبيده خسائر بشرية كبيرة على الرغم من التكتّم المتواصل لدى العدو، وهو أمر معروف عن الصهاينة أنهم لا يعترفون بخسائرهم، خاصة خلال فترة القتال.
-ضرب عمق كيان العدو الإسرائيلي بالصواريخ، ما خلق حالة ردع نفسي وإعلامي، وقد عملت المقاومة على ضرب المستوطنات حتى بعد احتلال العدو لغزة وتدميره لمساحات شاسعة منها.
بالإضافة إلى استمرار ضرب القوات المسلحة اليمنية المتواصل لعمق الكيان الغاصب.
-منذ “7 أكتوبر” حتى الوصول إلى اتفاق وقف النار، تم كسر صورة التفوّق المطلق لجيش العدو الإسرائيلي أمام الرأي العام العالمي.
-تحقيق إنجازات تفاوضية مثل صفقات تبادل أسرى، أو شروط إنسانية تتعلق برفع الحصار.
انطلاقًا من كل ما سبق، يمكن التأكيد أن ما جرى بوقف العدوان على غزة، يؤكد:
-شرعية المقاومة كطرف رئيسي في الساحة الفلسطينية، وفي كل ساحة توجد فيها حركة مقاومة.
-يفتح الباب للضغط من أجل رفع الحصار عن قطاع غزة والشعب الفلسطيني، وفتح المعابر كافة، وإدخال المواد الغذائية والطبية والبضائع دون قيود، كي لا يشكّل الحصار فرصة لاستكمال العدوان بطرق أخرى، وضرورة إعادة البناء بشكل فوري، وتأمين احتياجات الناس، وتعزيز صمودهم.
-هناك قدرة للشعوب وحركات المقاومة على فرض شروطها الوطنية بما يحقق مصلحة بلداننا في مواجهة كل المخططات الاستعمارية الجديدة للمنطقة.
-الاستفادة من التعاطف الدولي لفتح ملفات محاسبة العدو وقادته، وكل الجهات التي دعمته وساعدته في جرائمه أمام المحاكم الدولية.
-أهمية دراسة التجربة الميدانية التي عملت عليها المقاومة لتطوير التكتيكات والاستفادة منها لحماية الدول والأوطان من الطامعين والمعتدين، وتثبيت معادلة الردع، والتأكيد أن أي عدوان سيقابَل بردود مكلفة.
-أهمية الاستفادة من التضحيات والانتصارات التي تحقّقت خلال الفترات الماضية في فلسطين ولبنان واليمن وإيران، لتوثيق الانتصار، ومواصلة توعية الناس، خاصة الأجيال الصاعدة، والتأكيد أن المقاومة — في ظل كل الظروف التي تحيط بنا — ليست خيارًا، بل ضرورة لحماية الحقوق والمكتسبات والثروات، وسيادة الدول، وعزّة الشعوب.
يبقى أن وقف العدوان على غزة لا يعني نهاية المعركة، بل هو بداية لمرحلة جديدة من التحدّي والبناء والاستعداد. فالمقاومة لم تنتصر فقط لأنها صمدت، بل لأنها غيّرت قواعد اللعبة، وأثبتت أن “العين قادرة على محاربة المخرز” إذا كانت الإرادة والروح حاضرتين.
المصدر: موقع المنار