السبت   
   18 10 2025   
   25 ربيع الثاني 1447   
   بيروت 23:01

الشهيد الغماري.. قائد تحوّلات اليمن وبوصلة فلسطين

لم يكن إعلان استشهاد الفريق الركن محمد عبد الكريم الغماري حدثًا عاديًا في الوجدان اليمني، بل محطة فاصلة في مسار المواجهة الوطنية والإقليمية التي يخوضها اليمن منذ أعوام.

الغماري، الذي تصدّر الصفوف في معارك التحرر والسيادة، لم يكن مجرد قائد عسكري يتقلد منصبًا رسميًا، بل كان مشروعًا وطنيًا متكاملًا، تجسّد في شخصية رجل أعاد صياغة مفهوم الردع، وبنى من الداخل عقيدة قتالية جديدة للقوات المسلحة اليمنية.

جاءت لحظة استشهاده تتويجًا لمسيرة طويلة من البذل والتخطيط والمواجهة، لتتحول سيرته إلى عنوان لمرحلة استراتيجية صاغت موقع اليمن كقوة فاعلة وصعبة في معادلات البحر الأحمر والممرات الدولية.

ومع الغماري، لم تكن فلسطين قضية تضامن أو شعارًا سياسيًا، بل محور قرار عسكري واستراتيجي. فوداعه في ميادين النزال لم يكن نهاية مسار، بل عهدًا جديدًا يقطعه أحرار الأمة على أنفسهم لمواصلة الطريق الذي رسمه.

استشهاده مثّل خسارة وطنية كبرى لقائد اتخذ قراراته من قلب الميدان، وقاد تحولات نوعية في بنية القوات المسلحة، محولًا إياها من مؤسسة دفاعية تقليدية إلى قوة ردع فاعلة تفرض معادلات جديدة على ساحات الاشتباك.

لقد صنع قراراته في أصعب الظروف وأكثرها ضغطًا، وكان حضوره في الخطوط الأمامية مصدر إلهام للضباط والجنود في التخطيط والتنفيذ، فكان قائدًا ميدانيًا بامتياز.

تجاوز تأثير الغماري حدود اليمن، إذ أصبحت قدرات القوات المسلحة تحت إشرافه محط اهتمام إقليمي ودولي، وسط اعتراف متزايد من دوائر عسكرية بأن اليمن دخل مرحلة جديدة من توازن القوة.

شهادات العسكريين الذين رافقوه تكشف حجم التحول الذي أحدثه، لا في غرف العمليات فحسب، بل في فلسفة العمل العسكري ذاته. فقد أعاد تعريف مفهوم الجبهة، فحوّلها من خطوط تماس إلى مناطق تأثير. وبحكم وجوده الميداني، أصبح القرار العسكري نابعًا من المعركة نفسها، لا من خلف المكاتب.

وتمركزه في الخطوط الأولى لم يكن تفصيلًا شخصيًا، بل مدرسة في القيادة الميدانية ستظل حاضرة بعد رحيله. لقد جعل من دعم فلسطين جزءًا مركزيًا في الاستراتيجية العسكرية اليمنية، وساهم في تطوير منظومات قادرة على الوصول إلى العمق الصهيوني واستهداف رموز الهيمنة الأمريكية في البر والبحر.

وباتت الصواريخ والمسيرات اليمنية، التي وُضعت خططها في عهده، عنصر قلق دائم للعدو، تفرض وقائع جديدة على الخريطة الأمنية الإقليمية.
كما أن الحشود الشعبية التي خرجت تودعه كانت استفتاءً وطنيًا وشعبيًا على خيار المواجهة، وتأكيدًا على التلاحم بين قرار المؤسسة العسكرية ووجدان الشارع اليمني.

من يقرأ سيرة الغماري يدرك أن فلسطين لم تكن في نظره شعارًا سياسيًا، بل بندًا ثابتًا في جدول العمل العسكري. خطط الردع التي أسهم في وضعها – سواء في مواجهة العدوان السعودي الأمريكي أو الاحتلال الإسرائيلي – انطلقت من مبدأ التكامل مع محور المقاومة.

لقد نقل اليمن من موقع المؤازرة إلى موقع التأثير، وجعل من كل ضربة تُطلق من صنعاء تعبيرًا عمليًا عن وحدة المصير مع فلسطين.

ولم يكن من المستغرب أن تعتبر تل أبيب الغماري “جزءًا من التهديد المباشر”، لا مجرد داعم خارجي. وقد أثار إعلان استشهاده اهتمامًا إعلاميًا وأمنيًا واسعًا في الأوساط الصهيونية، خصوصًا بعدما عجزت الاستخبارات الإسرائيلية عن تأكيد مصيره فورًا، في مؤشر على متانة وتعقيد المنظومة الاستخبارية لأنصار الله.

تأخر الإعلان الرسمي لدى العدو عن مكان وتوقيت الاستشهاد شكّل دليلًا على فشل استخباراتي واضح، وأبرز أن القدرات اليمنية لم تعد خطرًا عسكريًا فقط، بل تحديًا استخباراتيًا وتقنيًا حقيقيًا في المنطقة.

إن الدم اليمني الذي اختلط بالدم الفلسطيني هو اليوم عنوان وحدة المصير والهوية. فالغماري لم يكن صانع قرار الردع فحسب، بل ركيزة أمنية عملت في الظل بقدر ما واجهت في العلن، محققًا معادلة نادرة: قائد حاضر في الميدان ومحاط في الوقت نفسه بمنظومة أمنية محصّنة.

وفشل العدو في تحديد تفاصيل استشهاده دليل على تطور أدوات اليمن في العمل الاستخباراتي، وتهديد فعلي للعقيدة الأمنية الصهيونية في المنطقة.

الحشود المليونية التي خرجت لتوديعه في مختلف المدن اليمنية لم تكن مجرد وداع لقائد، بل تجديدًا لعهد تاريخي بين اليمن وفلسطين. فدماؤه امتزجت بدماء أبناء غزة والضفة، وأضحت رمزه بوابة لوحدة المقاومة الممتدة من صنعاء إلى القدس.

ما عبّرت عنه الساحات اليمنية لم يكن حزنًا فقط، بل وعيًا جمعيًا بأن الغماري لم يرحل وحده، بل ترك خلفه مشروعًا وطنيًا متجذرًا في هوية الأمة ومصيرها.

إن استشهاد الفريق الركن محمد عبد الكريم الغماري لا يُقرأ كحدث عسكري فحسب، بل كتحول استراتيجي في معادلة الردع الإقليمي وصعود اليمن كقوة مركزية في محور المقاومة.

لقد جسّد الغماري نموذج القائد الميداني والمخطط الاستراتيجي في آنٍ واحد، وأعاد صياغة العلاقة بين القرار الوطني والقضية الفلسطينية. بدمائه، تتكرس قناعة جديدة في الوعي العربي والإسلامي بأن اليمن لم يعد طرفًا خارجيًا في قضايا الأمة، بل لاعبًا محوريًا في معادلة التحرر والمواجهة.

رحل القائد الكبير، لكن المشروع الذي أسسه لا يزال ينبض في الوعي الجمعي وفي إرادة الاستمرار التي تحوّل الفقد إلى قوة دفع نحو الأمام.

ويبقى الغماري روحًا مقاتلة ووعيًا استراتيجيًا، ورمزًا لمعنى أن يكون القادة في المقدمة، وأن تبقى فلسطين البوصلة، واليمن قلب الأمة وضميرها الحي.

المصدر: المسيرة نت