الجمعة   
   19 09 2025   
   26 ربيع الأول 1447   
   بيروت 17:32

الثبات الإستثنائي لبيئة المقاومة.. الأسباب والخلفيات

صمودٌ أسطوريّ سطّرته، وما تزال، بيئة وأهل المقاومة في لبنان خلال العدوان الإسرائيلي الأخير، هذه البيئة التي تُبدع في تقديم أروع صور الوفاء والتضحية والإيثار، في زمنٍ تخلّى فيه كثيرون عن أبسط مبادئ الإنسانية ونصرة الحق.

وفي “زمن التخلي” هذا، وقف أهل المقاومة ثابتين، وكانوا التطبيق العملي لصوت الإنسانية في مواجهة الظلم، ورفضوا الذل والغطرسة، وناصروا المظلومين مهما غلت التضحيات. لم يسلّموا للعدو الإسرائيلي، ولا لمن يقف خلفه من الإدارة الأميركية أو الأنظمة الغربية والإقليمية.

هذا الصمود الاستثنائي لشعب المقاومة ظهر جليًا في أبناء القرى الحافية الجنوبية الحدودية مع فلسطين المحتلة، وفي كل قرى الجنوب، وصولًا إلى البقاع المقاوم، مرورًا بالضاحية الجنوبية لبيروت، وكل مدينة وقرية لبنانية ترفض الغطرسة والسادية الأميركية ــ الإسرائيلية في محاولات تركيع شعوب وبلدان المنطقة. فشعوب هذه المنطقة، وخصوصًا بيئة المقاومة، ينطلقون في رفضهم للخضوع من مفاهيم وأسس تربّوا عليها وتوارثوها جيلًا بعد جيل، منذ مئات السنين.

فما هي هذه العقيدة التي تجعل الإنسان لا يموت إلا شامخًا، معتزًا بربه ودينه وأهله وأبنائه؟ ما هي هذه الأفكار التي تدفعه إلى تقديم أغلى التضحيات دون أن يساوم على حقه أو قيمه أو تراب وطنه؟ وهل أعطت هذه العقيدة لبلداننا سوى العزّ والكرامة والرؤوس المرفوعة؟

حول هذا الموضوع، قال الباحث في الشؤون الاستراتيجية الدكتور طلال عتريسي إنّ “ما أظهرته بيئة المقاومة، أو ما يُعرف بمجتمع المقاومة ــ على اختلاف التسميات ــ كان لافتًا ومؤثرًا في آنٍ معًا”، وتابع: “كان من المتوقّع، وفقًا لعدد من الخطط والتوجهات وسياسات الحرب النفسية، أن يتراجع هذا المجتمع ويستسلم للإحباط وخيبة الأمل، خاصة بعد استشهاد السيد حسن نصر الله، لكن المفاجئ فعلًا كان في حجم ومستوى هذا الصمود والثبات”.

ولفت عتريسي، في حديث خاص لموقع قناة المنار، إلى أنّ “المقصود بهذا المجتمع ليس النخب أو المثقفين أو الإعلاميين، بل الناس العاديون”، وأضاف: “لقد لمسنا بأعيننا هذا الصمود في عودتهم إلى قراهم، وفي ما أظهروه من وعي سياسي بطبيعة العدو”، وتابع: “نسمع امرأة بسيطة تقول: هذه أرضنا، وهذا العدو لن يكون له أيّ فرصة للبقاء، ونحن على استعداد للتضحية”، مشيرًا إلى أنّ “بعضهن قدّمن شهيدًا أو أكثر”.

وقال عتريسي “هنا يُطرح سؤال جوهري: من أين تأتي هذه الثقافة؟ وكيف تشكّل هذا المجتمع؟”، وتابع “الإجابة تكمن في بعدين أساسيين: بعد عقائدي من جهة، وبعد ثقافي وسياسي من جهة أخرى. غير أنّ البعد العقائدي وحده لا يكفي، بل يحتاج إلى توجيه وترتيب في الأولويات”. وأضاف “هذا البعد يرتبط بالالتصاق العميق لدى هذه البيئة بالموروث الكربلائي، وهو ما ظهر جليًا في وصايا الشهداء، إذ لم تخلُ أي وصية تقريبًا من ذكر الإمام الحسين (ع)، وكربلاء، والاستشهاد”.

وأوضح عتريسي أنّ “الرجال والنساء على حد سواء، ممن تحدثوا عن استشهاد الابن أو الزوج أو الأخ، قاسوا هذه التضحيات على استشهاد الإمام الحسين (ع) وصحبه، وعلى صبر السيدة زينب (ع)، وعلى ما جرى في تلك الواقعة العظيمة. وهكذا، فإنّ المقارنة بين استشهاد الأحبة ومصاب كربلاء تجعل المصيبة ــ رغم قسوتها ــ أصغر وأهون، قياسًا بما تعرّض له أهل البيت (ع)”.

ورأى عتريسي أن “هذا البعد العقائدي كان مهمًا للغاية، لكنه شكّل قاعدة لانطلاق التوجيه الثقافي والسياسي، وهو ما ركّز عليه السيد نصر الله، إذ عمل خلال سنوات طويلة على بناء ثقافة سياسية ترتكز إلى هذه القاعدة”، وأضاف: “هذه الثقافة السياسية تقول بوضوح إنّ المواجهة اليوم هي مع يزيد هذا العصر: أي الكيان الصهيوني والسياسة الأميركية، حتى لا يحصل أي انحراف في الجانب العقائدي أو تراجع في العزائم”.

واعتبر عتريسي أن “هذا يُعد من أبرز إنجازات السيد نصر الله، إذ إنه لم يقتصر على ترسيخ ثقافة في المجتمع الشيعي فقط، بل صنع ثقافة كرامة وعزة ورفعة، انطلقت أولًا من داخل بيئته، ثم امتدّت إلى خارجها على المستوى السياسي العام”، وتابع: “لهذا شعر كثير من اللبنانيين من خارج البيئة الشيعية، بل وكثير من العرب والمسلمين، بأنهم خسروا قيادة مشروع الكرامة والعزة، وخسروا السقف الذي كان يحميهم، كما عبّر بعضهم”، وختم قائلا “بناءً على ذلك، يمكن القول إنّ هذا التداخل بين العقيدة والثقافة والسياسة هو الذي يُفسّر سرّ هذا الثبات والصلابة في مجتمع المقاومة، رغم التضحيات والصعوبات والتهديدات التي يواجهها”.

من جهته، قال أستاذ علم الاتصال في الجامعة اللبنانية الدكتور إياد عبيد “مجتمع المقاومة وبيئته هو مجتمع مؤمن، مقتدر بالله، صابر محتسب”، وتابع: “هذا المجتمع، الذي أثبتت التجارب والمحن أنّه مجتمع صامد وقوي ومتماسك، مؤمن بالله وبكتابه، وبنبيه القائد محمد بن عبد الله (ص)، وبأحفاده (ع) وأصحابه”، وأضاف: “هذا المجتمع الحسيني الكربلائي، كلما اشتدت الخطوب، ازداد تماسكًا، وأظهر إيمانه وقدرته على العطاء المستمر”.

وفي حديث خاص لموقع قناة المنار، قال عبيد “كيف لا، وهذه حرب عدوانية شرسة، حرب استئصالية واجهته من قبل آلة الحرب الأميركية ـ الصهيونية، بأشدّ أدوات القتل والتدمير، والتي أعلنت من أعلى مرجعيات القرار في العالم ــ وداخل الكيان نفسه ــ أنها ستبذل جهدها لاستئصال هذه المقاومة وبيئتها وأهلها؛ لقد كانوا في حرب وجود”.

ولفت عبيد إلى أنّ “متانة هذا الشعب وقوته واستبساله رأى الناس مظاهرها بأعينهم، حين شهدوا كيف أنّ قيادته مقبلة غير مدبرة، تستشهد في ميادين القتال، حيث ارتقى قائدهم السيد حسن نصر الله شهيدًا، وبعده الأمين العام الثاني السيد الهاشمي، وقادة الصفوف الأولى، وهم يقبلون على الشهادة دون تردّد، كأنهم يتسابقون إليها، قد ابتاعوا الآخرة بالحياة الدنيا، وباعوا حياتهم وأهدوا جماجمهم لله”.

وتابع عبيد “كما كان يُطلق عليهم السيد نصر الله، فإنّ هؤلاء الشهداء والجرحى وعوائلهم وأهل المقاومة يمثّلون أعلى قيم الشهامة والنبل والإيمان، يعلمون أنّهم بهذا الصبر والثبات إنما يطلبون إحدى الحسنيين: إما النصر وإما الشهادة”، وقال “لم يحيدوا لأنّ قيادتهم لم تحِد، لم يتنازلوا لأنّها لم تتنازل، ولم يهربوا لأنّها بقيت واستشهدت، ومن بقي من هذه القيادة يعلن دائمًا أنّه مشروع شهادة. إنهم يعملون وفق مبادئ إيمانية تُثمر دائمًا، وتُمهّد لمستقبل من السلام والكرامة لأبنائهم في لبنان”.

ويواصل شعب المقاومة، الذي احتفل هذا العام بالذكرى الـ1500 لمولد رسول الرحمة محمد بن عبد الله (ص)، السير على نهج النبي القائد وحفيده الإمام الحسين (ع)، مؤكدًا الثبات على النهج الكربلائي: “هيهات منّا الذلة”.

المصدر: موقع المنار