ليندا حمورة
قد تبدو كلمة “تحرير” مجرد أربعة حروفٍ عابرة لمن لم يُكسر قلبه على بوابة تُغلق في وجهه رغم التصاريح، لمن لم يُرغَم على الوقوف طويلًا تحت شمس الحواجز ينتظر إذنًا بالعبور، وكأن الحياة تُقاس بختمٍ على ورقة. لكنها، لأبناء الجنوب، لمن ذاقوا لوعة الغياب، وسهروا على هدير الطائرات، واستفاقوا على صدى القصف… هي الحياة تعود إلى طبيعتها، إلى بساطتها، إلى دفئها الأول.
كنت طفلة لا تعرف السياسة، ولا تفهم من الدنيا سوى دفء البيت وحكايا المساء، حين اجتاح العدو بحمدون، وامتدّ الحريق حتى اقتلع منّا أبواب الطمأنينة. تهجّرنا كما تهجّر الآلاف، واجتمعنا في ميس الجبل، قريتي الجنوبية، التي كانت ترزح تحت الاحتلال. هناك، لم تكن الأرض وحدها تحت القبضة، بل الخوف أيضًا… كان يملأ الزوايا ويكتم الأنفاس.
أذكر المشهد كأنّه الآن. كنتُ على الشرفة، حين سمعت أصواتًا غريبة… كلماتٌ مرّت كصفعة على الذاكرة. نظرت، فإذا بجنودٍ يتقدّمون بثقلٍ، تتدلّى من أكتافهم بنادق أكبر من أجسادهم، ويختم صفّهم جنديّ يسير إلى الوراء كمن يحرس ظلًّا. لم أرتعب، فقد ألفت أذناي صدى الانفجارات، لكنّ المفاجأة جاءت من حيث لا أتوقّع… من حمار.
نعم، حمار أعزل اقترب منهم، ففرّوا كمن رأى وحشًا ينهض من تحت التراب! ركضت نحو والدي، وسألته، فأجاب: “ربما خافوا أن يكون مفخخًا!” حينها فهمت… أن من يملك سلاحًا قد يرتجف من خشّة ورق، وأن من يحتل الأرض لا يعني أنه يمتلك الشجاعة. أحيانًا تنهزِم الدبابة أمام خطوة حيوان أليف.
الإحتلال لم يكن فقط جنودًا، بل في تفاصيل الحياة: في الطرقات المقطوعة، في البيوت المفتوحة عنوة، في العيون التي تعوّدت الخوف. كانوا يدخلون البيوت بلا إذن، يعتقلون شبابنا، ويصنعون من بعضهم ما سُمّي “جيش لحد”، كأن الخيانة يمكن أن تُجمَّل بالرتب.
لكنّ للكرامة صوتًا لا يُكمم، وللأرض نبضًا لا يُسرق.
سقط الشهداء، وزرع المقاومون أجسادهم على الطرقات، جسورًا نعبر عليها نحو الوطن. مضت المقاومة وحدها، دون غطاء، إلا من إيمانها، وخلفها أمّ تُسلّم ابنها للسلاح وتقول: “عُد منتصرًا، أو لا تعد إلا ملفوفًا بعلمك.”
وفي الخامس والعشرين من أيار عام 2000… انكسر القيد.
تحرّر الجنوب، فعاد الوطن إلى صورته، واستعادت الجغرافيا معناها. لم يعد الجنوب نقطة على الخريطة، بل صار وجهة الكرامة، وسطرًا مضيئًا في كتاب الوطن.
فهنيئًا للبنان بجنوبه الصامد،
وهنيئًا للأرض التي عادت لنبض أهلها،
وهنيئًا للأمهات اللواتي خُطن النصر بخيط من صبر.
وكل عام والجنوب يسكن فينا… بترابه، بشهدائه، وبحروف “التحرير” التي لا تهرم.
المصدر: صحف