إن المتابع لمسيرة وفكر سيد شهداء الأمة الشهيد القائد السيد حسن نصر الله يلمس بوضوح البُعد التربوي العميق في خطابه وقدرته الاستثنائية على الجمع بين الإرشاد والنصح والتعليم بأسلوب مبسط وفعّال، فهو الناصح والمعلم الذي يخاطب العقول والقلوب من مختلف المستويات الفكرية، ويغوص في جوهر القضايا التربوية والاجتماعية والأخلاقية، ليقدّم رؤيته بروح القائد المسؤول والمربّي الحريص.
كان السيد الشهيد دائم التواصل مع الناس، في كل مناسبة ومحفل، سواء في لقاءات عامة أو خاصة، أو في مؤتمرات وندوات ذات بعد رمزي أو استراتيجي، هذا الحضور المتواصل جعل من كلماته نبضًا حيًّا في وجدان الأمة، وكلماته كانت دومًا منارة للوعي، تنير دروب الناس وتعيد صلتهم بالقيم والعقيدة والعمل الصالح.
حول ذلك، قال الباحث الدكتور طلال عتريسي في حديث لموقع قناة المنار إن “السيّد نصر الله تميز بأمرٍ لافت في الحقيقة، لم يكن شائعًا في تجارب قيادات سياسية أخرى وهو أنه كان يتحدث إلى الناس بصراحة وشفافية في كثير من الأحيان، وكان يقول صراحة: أنا أتحدث بشفافية وبصراحة”، ولفت الى ان “بعض الناس كان يتفاجأ من هذه الصراحة لأنه كان يتطرّق أحيانًا إلى بعض التفاصيل الخاصة في قضايا سياسية معيّنة”.
ورأى الدكتور عتريسي ان “هذه العلاقة مع الناس تعد مسألة جوهرية في القيادة السياسية، إذ إنّ أيّ قائد يبتعد عن الناس يفقد موقعه القيادي تدريجيًّا مع مرور الوقت”، وتابع “يتشكّل نوع من الجفاء بين القائد والناس، وهذه القاعدة مستمدّة أيضًا من التجربة النبوية، إذ كان الرسول الأكرم محمد(ص) في كل المناسبات، يدعو الناس ويخطب فيهم ويحدّثهم ويطلب منهم ويرشدهم ويوجّههم”، وأضاف “حتى النظريات السياسية الحديثة تؤكّد على دور الشعب وأهمية حضوره في قيادة أيّ مشروع للتغيير”، وتابع “لكنّ الفرق هو أنّ كثيرًا من أصحاب هذه النظريات السياسية الغربية، عندما وصلوا إلى السلطة، لم يطبّقوا تلك النظريات في علاقتهم مع الشعب، بل انصرفوا إلى تعزيز قبضتهم على السلطة وإدارتها، أمّا السيّد فكان على صلة وثيقة بالناس وكما كان يقول: أنا أحب الناس، والناس أيضا كانوا يحبّونه ولهذا السبب كان يحرص كلّما أمكنه ذلك، على المشاركة شخصيًّا في المسيرات والمناسبات، على الرغم من صعوبة الظروف الأمنية”.
واكد عتريسي ان “السيّد نصر الله قدم خلال تجربته الممتدة على نحو أربعة عقود في قيادة المقاومة في لبنان على المستويين العسكري والسياسي، تجربة متميّزة ومختلفة، تجربة تتعلّق بالجانب الفكري والنظري الذي طرحه، وتتّصل كذلك بكيفية التعامل مع صياغة الإنسان”، واضاف “قدّم هذا الطرح انطلاقًا من الرؤى القرآنية تحديدًا، وأيضًا من خلال أسلوبه في التعامل مع مشكلات الناس، كما عرض رؤية متكاملة، من خلال هذا البُعد النظري، للمجتمع السليم ولمكوّناته الأساسية”، واعتبر ان “السيّد نصر الله لم يكن شهيدًا حيًّا فقط من أجل قضية فلسطين، فبالإضافة إلى هذه الشهادة المهمّة، قدّم أيضًا تجربة غنيّة على المستويات النظرية والعملية، الاجتماعية والسياسية والتربوية”.
والسيد نصر الله تناول في كلماته وخطاباته الكثير من المبادئ والقضايا الاجتماعية والفكرية التي ترتبط ببناء المجتمع والأجيال على أسس سليمة، فعلى سبيل المثال في إحدى كلماته خلال المجلس العاشورائي في 11-7-2024، قال السيد نصر الله: “الله دعا إلى تكوين العائلة والحثّ على إنجاب الأولاد ذكورًا وإناثًا، مقابل ثقافة مقابلة تدعو لعدم الإنجاب والابتعاد عن قيم العائلة… ثقافة الحياة تتمثل بالعلم والتكنولوجيا، بالأمن الغذائي والصحي، بالزواج وتكوين العائلة والحث على الإنجاب، وعلى المودة والرحمة داخل الأسرة، وصلة الرحم واحترام الجيران وكسب الرزق الحلال وإدخال البهجة إلى القلوب..”.
وبالسياق، لفت الدكتور طلال عتريسي الى انه “تبين خاصة بعد استشهاد السيد نصر الله أنه كان هو بنفسه يعيش ما كان يدعو الناس إليه”، وتابع “هو كان يعيش حياة البساطة والزهد والتواضع والعلاقات العائلية المتينة والعلاقات الاجتماعية على رغم من ظروفه الأمنية الصعبة”، واضاف “من المعلوم أنّ السيّد نصر الله خلال كل هذه السنوات كان يتحدّث في مناسبات سياسية معيّنة عن التطورات السياسية والاستراتيجية، سواء ما يتعلّق بوضع المقاومة في لبنان والمنطقة، أو ما يتعلّق بمشكلات لبنان السياسية غير أنه لم يكن قائدًا سياسيًا فقط”، وتابع “لهذا السبب، كان يتحدّث في العديد من المناسبات المختلفة، وخصوصًا في أيام عاشوراء على سبيل المثال، حيث كان يخوض في قضايا دينية واجتماعية وأخلاقية وأُسرية وغيرها، لهذا، لا يمكن أن نفصل في قراءة تجربة السيّد نصر الله بين البعد السياسي الذي كان يطغى أحيانًا، وبين الأبعاد الأخرى التي أراد من خلالها بناء الإنسان والمجتمع”.
وفي خطاب آخر للسيد الشهيد نصر الله في مسيرة العاشر من المحرم يوم 29-7-2023 تناول السيد ملف “الشذوذ الجنسي” في لبنان، محذرا من ان “هذا المشروع يتنافى مع الفطرة الإنسانية، وهو خطر حقيقي وداهم…”، وقال “إننا نطالب الحكومة اللبنانية وبالخصوص وزارة التربية، أن تُعيد النظر وأن تحمي أطفال لبنان من هذا الانحراف… المعركة هنا ليست دينية فحسب، بل معركة الإنسان الشريف، الإنسان الذي ما زال يحتفظ بفطرته…”.
وبهذا الإطار، اوضح الدكتور عتريسي ان “الهدف بالنسبة إلى السيد نصر الله لم يكن تحقيق الإنجاز السياسي أو حتى تحقيق انتصارات للمقاومة في لبنان أو فلسطين”، وتابع “كان هذا هدفًا مهمًا وأساسيًا واستراتيجيًا، لكن السيّد كان يتطلّع إلى ما هو أعمق: بناء الإنسان على المستويات الأخلاقية والعبادية والسلوكية وبناء المجتمع أيضا على أسس أخلاقية من خلال ترسيخ العلاقات الإنسانية داخل هذا المجتمع”.
وقال عتريسي إن “السيّد يُعدّ قائدًا سياسيًا وفي الوقت نفسه صاحب رؤية اجتماعية وأخلاقية وإنسانية، ومن خلال رؤية السيّد في بناء الإنسان وبناء المجتمع، بالإضافة إلى البناء السياسي والفكري ونشر الوعي، كان السيّد يؤكّد في مناسبات معيّنة على أهمية البناء الاجتماعي العائلي، لا سيّما في ظل موجة من الدعوات إلى تفكيك الأسرة وانتشار مظاهر الانحراف في السنوات القليلة الماضية”.
واضاف “كان السيّد يعتبر أنّ من واجبه التصدّي لهذا الانحراف الفكري والاجتماعي، وفي الوقت نفسه، كان يؤكّد في مناسبات أخرى على أهمية الاحترام المتبادل داخل الحياة الأسرية، وهو موقف ينطلق أساسًا من رؤية إسلامية أصيلة وكان يوجّه الزوجين دومًا إلى التحلّي بهذا الاحترام”، وتابع “كما كان في الوقت ذاته يدعو الناس إلى تطبيق الممارسات الأخلاقية في الشوارع والأحياء والمنازل، لقد كان يحمل هذا الهمّ، همّ البناء الأخلاقي، لان الأسرة هي العمود الفقري لبناء المجتمع”.
وذكّر عتريسي ان “السيد نصر الله كان يشجع على الزواج المبكر وبناء الأسرة وتعزيز الوعي والمشاركة في التعرّف على القضايا السياسية والاجتماعية وتاريخ لبنان والمنطقة بهدف بناء جيل واعٍ، مثقّف، ملتزم أخلاقيًا، ومرتبط بعائلته”.
كما اهتم السيد نصر الله في بناء المجتمع والادارة والدولة على أسس النزاهة والشفافية واحترام القانون، وفي لقاء مع “التجمع الإسلامي للمعلمين” يوم 8-3-2002، شدد السيد نصر الله على البعد الأخلاقي في الإصلاح الاقتصادي والسياسي، وقال “علينا أن نأتي بمسؤولين نظيفي الكف، يلتزمون بالقانون، ويملكون الحس بالمسؤولية.. إن خطة الإنقاذ تبدأ بقطع يد الفساد.. ولسنا بحاجة إلى التهويل أو التهوين، بل إلى أداء سياسي ووطني راقٍ”.
كما تحدث السيد الشهيد عن التحركات النقابية، قائلا: “نحن مع المطالب النقابية المحقّة للعمال والأساتذة، شرط ألا تُستغل وتُلبس لبوسًا سياسيًا..”.
أما في إحدى خطبه العاشورائية يوم 12-9-2018، فتناول السيد نصر الله أثر التعلّق بالدنيا على مواقف النخب والمجتمعات، فقال “حب الدنيا أصل كل معصية.. إن التغير التربوي والثقافي في النخب والناس أوصلهم إلى التخاذل والابتعاد عن جبهة الحق. الذين ركَنوا إلى الدنيا لم ينالوا منها شيئًا، ونالوا غضب الله في الآخرة”.
وهذا غيض من فيض ما تناوله سماحة السيد الشهيد في فكره النيّر، وبهذا الإطار، قال الدكتور عتريسي إنه “يمكن الرجوع إلى الكثير من خطب السيد نصر الله التي أكّد فيها على هذه الأبعاد في بناء الفرد والأسرة والمجتمع، وفي الوقت ذاته على الالتزام بالقضايا الكبرى التي تخصّ المجتمعات وعلى رأس هذه القضايا: قضية المقاومة ومواجهة الاحتلال والاستبداد والهيمنة والعمل على الإصلاح في الداخل اللبناني ونشر ثقافة العزّة والكرامة بين الناس ورفض الخضوع”.
ولفت عتريسي الى ان “الناس كانوا يشعرون مع فكر وكلام وعمل السيد نصر الله بالعزّة والقوّة وهذا من أسباب تعلّقهم به وتحسّرهم على فقده وشعورهم بالفراغ الكبير بعد غيابه”، وتابع “لقد كان السيّد يحرّك في الناس هذه القوة الكامنة وهذه الرغبة والحاجة إلى الكرامة والعزّة وهذا ما رسّخه”، واضاف ان “هذا لن يزول ولن يختفي بعد غياب السيّد، فما زرعه طوال أكثر من ثلاثين عامًا، على مستوى تقديم الرؤية من جهة وتحقيق الإنجازات الفعلية من جهة أخرى ونشر ثقافة الكرامة والعزّة ورفض الاحتلال والاستبداد لن يندثر”، واكد ان “الاجيال ستستمرّ في حمل هذه الرؤى التي قدّمها السيّد الشهيد على المستويات السياسية والأخلاقية والاجتماعية والثقافية، وفي شتى جوانب الحياة”.
الواضح ان الشهيد السيد حسن نصر الله لم يكن قائدا عسكريا أو سياسيا فحسب، بل كان مربيا اجتماعيا وناصحا مرشدا، حمل في كلماته نبض الأمة وهموم الناس واحوالهم، وفي خطبه مشروعا تربويا عميقا يستهدف الإنسان في جوهره، ومن هنا تتجلى عظمة هذا القائد الشاهد والشهيد، الذي حوّل المنبر إلى مدرسة والكلمة إلى منارة تلهم الثوار وتنير الدرب لمن أراد السير بطريق الصواب.
من وحي فكر السيد نصر الله.. سلسلة ينشرها موقع المنار على حلقات
من وحي فكر الشهيد السيد نصر الله (1).. التقارب والوحدة الإسلامية
من وحي فكر السيد نصر الله (2).. القائد العروبي وناصر قضايا الأمة
من فكر السيد نصر الله (3).. القائد اللبناني وحامل هموم الوطن
من فكر السيد نصر الله(4).. القائد الإنساني حتى الشهادة
المصدر: موقع المنار