الأصل في العمليات العسكرية بنوعيها الأساسيين (الهجوم والدفاع) هو الهدف المتوخى من العملية المحددة والذي على أساسه يُقاس النصر أو الهزيمة، فإذا كان العمل هجوماً فيكون النصر ببلوغ الهدف الذي حدّد للهجوم قبل انطلاقه، وانْ كان دفاعاً فيكون النصر بمنع المهاجم من تحقيق هدف هجومه، وتبقى المرونة في مراجعة الأهداف وتعديل لوائحها أمراً لا بدّ منه ربطاً بما يستجدّ أو يفرضه الميدان، إنما يبقى الهدف أساساً في اعتماد العمل أصلاً، لأنّ العمل الذي ينطلق من غير هدف أصلاً أو من أجل هدف غير قبل للتحقيق، او هدف أظهر الميدان استحالة الوصول اليه او الكلفة الباهظة جداً لتحقيقه فإنه يكون عملاً عبثياً لا يقوم به عاقل واعٍ لمسؤولياته…
ذكرت هذه القواعد المعتمدة عسكرياً قبل ان أعرض لما يجري في جبهة لبنان مع الاحتلال في فلسطين ومزارع شبعا والجولان السوري، حيث تقود المقاومة الإسلامية في لبنان مواجهات حارَ الكثيرون في تفسيرها طبيعة وهدفاً، وانقسم المعنيون بشأنها بين من يطالب بالمزيد او من يرى غير ذلك ولهذا يطرح السؤل ما الذي يجري بالضبط على هذه الجبهة والي اين هو متجه؟
بعد حرب العام 2006 وعلى ضوء النتائج التي تمخضت عنها تلك الحرب والتي بموجبها صنفت «إسرائيل» مهزومة في الميدان في مواجهة «بضعة آلاف من المقاتلين» على حدّ ما جاء في تقرير لجنة فينوغراد، بعد هذه الحرب سادت وبالأمر الواقع قواعد اشتباك ناظمة للمواجهة بين المقاومة في لبنان والعدو الصهيوني في فلسطين المحتلة، قواعد تتضمّن حقّ المقاومة بالمبادرة الى عمليات عسكرية ضدّ العدو في مناطق احتلاله لأرض لبنانية في مزارع شبعا، كما وحقها بالردّ على أيّ اعتداء إسرائيلي ينتهك حقاً سيادياً لبنانياً أياً كان مكان الانتهاك ووسيلته وحجمه.
وعندما أطلقت حركة حماس عملية «طوفان الأقصى» بادرت المقاومة الإسلامية في لبنان (وبصرف النظر عما اذا كانت العملية بتنسيق او بدون تنسيق معها) الى إعلان موقف صريح منها معلنة أنها ليست على الحياد، وأنها تتابع الموقف لحظة بلحظة من أجل اتخاذ التدبير المناسب في المواجهة دون ان تحدّد شيئاً من طبيعة ما ستقوم به بل أبقت الأمر غامضاً وظنّ البعض أنه ترك التوضيح ليقوم به سيد المقاومة في كلمة يلقيها في إطلالة جرت العادة على القيام بها في مثل هذه المواقف، بيد انّ السيد لم يتحدث كما انتظر البعض، وظهر انّ الحزب اعتمد استراتيجية «الغموض والحسم»، بشكل أربك العدو الذي لم يستطع فكّ شيفرة تصرف المقاومة التي انتقلت من مرحلة الجهوزية الى مرحلة الاحتكاك والمواجهة تحت سقف قواعد الاشتباك، وصولاً الى مرحلة «الحرب المقيّدة بالمكان والهدف والوسيلة والسلاح» التي دخلتها المقاومة بعد ان تجاوز العدو قواعد الاشتباك واستهدف مدنيين في لبنان كان الصحافي عصام عبدالله في مقدمة من استشهدوا منهم بنار العدو.
وممارسة لدقائق «الحرب المقيّدة» دمرت المقاومة الجزء الأكبر (75%) من منظومة المراقبة البرية الإسرائيلية التي نشرها العدو على الحدود مع لبنان ليراقب الداخل اللبناني بعمق يصل أحياناً الى 9 كلم يحصي فيها كلّ حركة ويسجلها على مدار الساعة، وقد فسّر العدو هذا التدمير بأنه عمل تمهيدي لتهيئة مسرح العمليات ثم ردّت المقاومة على استهداف الأشخاص داخل لبنان باستهداف الدوريات والمراكز العسكرية للاحتلال داخل فلسطين المحتلة حتى عمق 3 كلم، لكن كلّ هذه الأعمال وبلوغ المقاومة هذه المرحلة التي تسبق مباشرة مرحلة الحرب المفتوحة، لم تشبع فضول أصحاب السؤال «هل يدخل الحزب الحرب؟» السؤال الذي يطرح من قبل العدو والخصم وبعض الحليف والصديق، معطوفاً على سؤال آخر هو «لماذا لم يتحدث السيد نصرالله حتى الآن»؟
البحث في هذه الأسئلة يعيدنا مباشرة الى ما طرحناه في مقدمة هذا المقال، وتحديداً ما ذكرناه حول الهدف من العملية العسكرية والسلوك ونسأل ما المطلوب في هذه المرحلة بالذات من المقاومة في لبنان ان تفعل دعماً وإسناداً للعملية الدفاعية الحالية التي تقوم بها المقاومة في غزة؟
في فنون الحرب هناك قاعدة تقول «الاحتفاظ بأوراق احتياط واجب وضرورة» ولا تلقي بورقة في الميدان قبل أوانها فتحترق دون ان تستثمر نارها، فإذا كانت الحرب طويلة – وهي طويلة كما يبدو وقد توقعناها منذ اليوم الأول ان تصل الى 10 أسابيع، وصرّح وزير حرب العدو قبل يومين بأنها قد تصل الى 3 أو 4 أشهر – فإن استعمال ما في اليد من أوراق يخضع للتمحيص المتشدّد في التوقيت وكيفية الاستعمال، ثم انّ المقاومة ليست معنية بكشف أوراقها وخططها للعدو وحرمان نفسها من عنصر المفاجأة، خاصة أنها وفي المرحلة الثالثة التي بلغتها حققت الكثير من الأهداف.
فقد فرضت على العدو أولاً الاضطراب في اتخاذ القرار بالمعركة البرية ومنعته حتى الآن من هذا القرار ما تسبّب بتفسخ وانقسام بين قادته في المستويين العسكري والسياسي فضلاً عن التباين مع أميركا التي تدير فعلياً هذه الحرب، وكذلك فرض على العدو تخصيص أكثر من ثلث قدراته العملانية وتجميدها لمواجهة الأخطار في جبهة الشمال. كما وأجبر العدو على إخلاء 28 مستعمرة ووضع خطة لإجلاء من تبقى في المستوطنات بعمق 9 كلم، بشكل قسري. وأخيراً تسبّب هذا الوضع بتراجع في اقتصاد الشمال وتعطيل مرافقه الإنتاجية والسياحية والخدماتية في بنسبة 40 وفقاً لما ذكر خبراء صهاينة، أما احتجاب السيد عن الظهور الإعلامي فقد تسبّب في تعزيز مفاعيل «استراتيجية الغموض والحسم» وزاد من قلق وإرباك العدو ورعاته حول ما سيكون عليه المستقبل.
وعليه وفي ضوء ما تقدّم، وانطلاقاً من تحليل المشهد القائم حالياً نرى انّ المقاومة أتقنت اتخاذ المواقف في الطبيعة والوقت المناسب وحققت بمواقفها تلك الأهداف التي تتوخاها بشكل عام وهي مستمرة عند اتخاذ أيّ موقف وقرار في مراعاة الحقائق والوقائع التالية:
ـ الحذر في استعمال أيّ من أوراق المواجهة خارج ضوابط قاعدة «التناسب والضرورة».
ـ التصرف على أساس انّ الحرب قد تصل الى 10 أسابيع قابلة للتمديد الى 14 أسبوعاً،
ـ النظر الى احتمال قيام العدو بحرب برية لاجتياح قطاع غزة على انه احتمال مرجح قد يكون لا بدّ منه ليحقق لـ «إسرائيل» نصراً يعادل او يحجب هزيمتها الاستراتيجية، لذلك قد يماطل العدو أو يراوغ في القيام به من أجل تهيئة مسرح العمليات للتخفيف من الخسائر ثم ينطلق اليه في صيغة شاملة او محدودة ربطاً بالظروف وقد حدّد العدو للعملية هدفاً نهائياً هو تفكيك حركة حماس وشطبها نهائياً.
ـ عدم المراهنة على عوامل مساعدة خارج محور المقاومة، عربية كانت او إسلامية او غير ذلك، فأميركا تعتبر الحرب حربها لأنها تمسّ بأمنها القومي وتتصرف على هذا الأساس، وتتصدّى لأيّ متدخل فيتراجع.
ـ الحاجة الى التحشيد الإعلامي لمواجهة مخاطر الحرب النفسية خاصة مسالة إشاعة الذعر العام من غير سبب موجب…
المصدر: صحيفة البناء