“أسرار التحرير الثاني”.. هكذا يشاهِد الفلسطيني المعركة – موقع قناة المنار – لبنان
المجموعة اللبنانية للإعلام
قناة المنار

“أسرار التحرير الثاني”.. هكذا يشاهِد الفلسطيني المعركة

اسرار التحرير الثاني
اسرار التحرير الثاني

تتعدد سيناريوهات مجابهة العدو الصهيوني إعلاميًا وتتوزع بين فاعلين متعددين: المقاومة نفسها، وما يدور في فلكها. فمنذ أيام أنهت قناة المنار وبالتعاون مع الإعلام الحربي في المقاومة الإسلامية في لبنان بث سلسلة وثائقية بعنوان “أسرار التحرير الثاني”، السلسلة التي تتكون من 12 حلقة اختزلت في مضمونها مشاهد عسكرية جسّدت حجم القوة المتعاظمة للمقاومة ومدى تطورها البشري والأمني والعسكري خلال الأعوام السابقة، والاسم بذاته رسالة، ماذا عن المشاهد؟

خلال مشاهدة السلسلة، ثمّة رسائل محلية وإقليمية ودولية أرادت المقاومة إرسالها، جلّها كان يسير باتجاه واحد “العدو الإسرائيلي”، وبطريقة مباشرة وغير مباشرة تلقاها العدو حتى وصل به المطاف لحجب مشاهدة السلسلة عن جنوده خوفاً من حالة الانهيار النفسي واستنزاف المعنويات، وكأن الرسالة وصلت قبل المشاهدة.

المراقب لما كشفت عنه المقاومة، وما يؤكده دائمًا أمينها العام السيد حسن نصرالله في معظم خطاباته، يؤشر أن الهدف من ما يجري في سوريا كان “تقسيم المنطقة”، الأمر الذي دفع المقاومة لتقديم قادتها وخيرة شبابها على طريق القدس، في مواجهة مشروع أُريد له حرف البوصلة عن القضية الأساس وإعادة تشكيل الهيمنة الصهيوأمريكية في المنطقة وفق مخطط “الشرق الأوسط الجديد”، وكل ما دفعته المقاومة من قادة شهداء وجرحى كان لمنع حصول ذلك، قادةٌ وجند خاضوا معارك ضارية في بنت جبيل ومارون الراس وعيتا الشعب خلال عدوان تموز 2006، كَشفوا عورة الأنظمة العربية التي توارت خلف شعارات السلام فيما كانت تنسج خيوط المؤامرة على المقاومة وبيئتها.

أما فلسطينيًا، وأثناء عرض الوثائقي، جلسَ الفلسطينيّ متابعًا عبر الفضاء المجازي بثَّ الحلقات، تتلألأ عيناه مع دفقاتٍ من الأشواق، ينبض جسده كرامة، يتابع كلّ تفصيلة وحدث، وهو الذي اعتاد على مشاهد المعارك والحروب، يرى في كل مشهد محاكاة لمعركة قادمة ستشهدها فلسطين حتماً، الفلسطيني الذي يقبع تحت الاحتلال، لا زال يقاوم بالحجارة والسلاح وصولاً للأمعاء الخاوية، في منطقة هشّة بدّلت ثوبها العربي بالتطبيع المدنس وباعت قضيتها ومقدساتها، تاركةً الفلسطيني يواجه صلف الاحتلال وحده، بل ساعدت عدوه على محاربة أصدقائه وحلفائه واستهدافهم وحصارهم اقتصادياً، يشاهد للمرة الأولى سلسلة وثائقية ذات طابع تحرريّ، تشبه إلى حدٍّ ما جغرافيته الفلسطينية، الفلسطيني الذي أحسَّ بالغربة، الآن وبعاطفة ثوريّة يرى حلمه يقترب شيئاً فشيئاً، كما لو أنه يشاهد يافا والجليل وعكا وطبريا، وما خلف مشاهد ركوب الباصات، صورٌ أقرب لزوال الصهاينة، لحريةٍ لازمت أحلامه يرقبها كل لحظةٍ وينتظر أن يكنس فيها أقذر احتلال مرّ على تاريخنا المعاصر.

في نقاش دار بيني وبين صديق ذات يوم، استوقفتني نبرة صوته اليائسة حين وصَل الحديث عند نقطة مفصلية “تحرير فلسطين”، في جُملة ما قال لي، أن “إسرائيل” تزداد توسعاً ويكثُر أصدقاؤها ووصلت إلى عواصمنا العربية واستوطنت عقول البعض بأكاذيبها وأوهام شعاراتها، ثم تمتم قليلاً وسكت! سألته مباشرةً، ماذا عن حلفاء فلسطين؟ ألا ترى صعوداً لقوى حيّة نابضة بالمقاومة؟ أجابني: نعم، لكن الخذلان يضعف مقاومتنا. مما لا شك فيه أن هذا الشعور يراود الفلسطيني أحياناً، لكنه يعرف أن ما يحيطه من خذلانِ القريب وتوقيع اتفاقات العار بين أنظمة الخليج والاحتلال، لا يمثل إلّا سراباً تبحث عنه “إسرائيل” لملء فراغها الوجودي الذي تقلّص بين جدران أسمنتية بَنتهُ حولها خوفاً من حلفاء فلسطين.

وانطلاقا من: “الجليلُ من الإشارة يُفَهمُ” رسالةٌ وثّقتها عدسةُ الكاميرا لرجلٍ واثقٍ وهادئ، سَكن هذا الضابط قلوب المشاهدين والمتابعين لـ “أسرار التحرير الثاني” حتى أصبح أيقونة جديدة في معركة الوعي رغم غياب صورته، أبدع في شرح طبيعة المعركة بأسلوبه الجذاب البسيط، مسجّلاً مقولة عسكرية واضحة، دوّت صداها في أروقة مراكز قيادة العدو وفي قلوب المتابعين، لامسوا فيها حجم الإعداد الإيماني والعسكري للمعركة القادمة، توالت بعدها تلك الرسائل، الفريدة حيناً والمتشابهة أحياناً، خاصّة التي حملها المقاتلون في قلوبهم ولم يصدحوا بها إعلاميًا، كانت عيونهم تبصر نحو القدس، تخبرك المشاهد ويخبرك رفاقهم وجرحاهم، هذه المقولة ليست الأولى، تخطاها السيد نصر الله بعبارة أوسع جغرافياً وميدانياً حينما سأله المذيع هل تملك أملاً أن تصلي أنت في القدس؟ أجاب الأمين “أنا من الذين يملكون أملاً أن أصلي أنا في القدس”، كان السيد نصر الله من أهم الوجوه التي تحدّثت عن فلسطين خلال الأعوام السابقة، ومازال، كلّها شكّلت رفدًا لمزيدٍ من الانتماء لقضية فلسطين، بقيت تلك العبارة متجذرةٌ في نفوس الأحرار المنتظرين ليوم العودة، عبارةٌ تخطّت مساحة الجليل، ثقيلة وشافية، اختصرت وجع أكثر من سبعين عاماً من الحرمان من الأرض.

يتساءل البعض من أين هذه الثقة؟ وكيف يملك كل هذا اليقين؟ تجيب مشاهد “أسرار التحرير الثاني” عن ذلك السؤال، كيف كان المقاتلون يقتحمون الدشم ويعتلون التلال ثم يرددون “لبيك يا نصر الله”، لبيك تعني انتظار الإشارة للبدء بأيِّ تكليف، أكبرها وأكثرها قرباً، حسم المعركة مع “إسرائيل” والعبور من الجليل وربما الصلاة في القدس، وهذا أصبح منطقياً ويمكن حدوثه، سواءٌ بحساباتِ الميدان أو بالسنن الكونية، وما تخشاه “إسرائيل” أكثر مما نؤمن به.

في عُرفِ سياسةِ المنطقة، من يقف مع فلسطين عليه أن يدفع الثمن، ثمنٌ يصل ذروته إلى “الدم” دفعه اليمنيّ والسوري والعراقي واللبناني في سبيل فلسطين.
كم كانَ عظيمًا لو نقلت عدسةُ المعدّين للوثائقي، حجمَ الألم الذي تنقله مشاعر الفلسطينيين أمام ما كشفته السلسلة، وهو يفكّرُ ويرى كل هذه الأسلحة والعديد الذي قُدِّم “للمعارضة”، وحجم الدعم الإعلاميّ الكبير، فيما فلسطين تُذبَح أمام دعمهم!، بل ويصفق العربُ لجلادها ويمسحون خيبتهم بعار التطبيع. يبقى السؤال عالقاً في ذهنه بعد انتهاء العرض! ماذا لو قدّمَت هذه الدول كل هذا السلاح للفلسطينيين، أو دفعوا جزءاً من هذه الدماء في سبيل تحرير الأرض العربية المحتلة؟ ام أن إشعالَ الفتن والحروب وقتل العربي لأخيه العربي أكثر شفاءً لأمراضهم العقلية والنفسية والفكرية؟

اليوم وبعد تمعّنٍ لمشاهد “أسرار التحرير الثاني” يمكننا القول أننا أقوياء بأصدقاء فلسطين، وأمام تحولٍ كبيرٍ في بُنية المقاومة وجهوزيتها، وأمام نموذج فريد من المقاتلين الذين يملكون روح قتالية وإيمانية عالية، سواءً في غزة أو لبنان، نموذج يفتقد إليه العدو بين مكوناته. قائد لواء جولاني المنصرف، العقيد شاي كليبر، بعد 23 عاماً من الخدمة في لواء جولاني، تحدّث في تقرير بثّه الإعلام العبري في شهر أغسطس الماضي عن الحرب المقبلة، بعدما سأله المذيع عن شكلها ومصيرها، قال “سنواجه عدواً ذا قدرة حركية وهجومية عالية، والجبهة الداخلية للدولة ستكون تحت النار وسنتعرض لضغوط كبيرة لم نشهدها من قبل”، هذا ينسجم مع شهاداتٍ موثّقة لجنود جولاني الذين تحدّثوا عن تفاصيل قاسية تعرّضوا لها في “جحيم الشجاعية” خلال عدوان 2014 على غزة، أحد الجنود بكى وهو يستحضر ذكريات مقتل رفيقه الملازم، ثم ختمَ حديثه بنبرةٍ بائسة “كنا شباباً لا نعي حقيقة القتال، وأدركت لاحقاً بأن الحرب ليست خياراً صحيحاً”، لم نسمع من جنود العدو حتى الآن أي جهوزية تامة لمواجهة المقاومة، حتى الأمر تعدّى ذلك، معظم قادة العدو يشكُونَ من معضلةٍ أساسية أصابت بنية الجيش الإسرائيلي تمثلت بعزوف الجنود عن اللحاق بالجيش، بينما شاهدنا جهوزية مقاتلي المقاومة واستعدادهم لمعركة الفتح، وهذا طبيعيّ في معادلة الحق والباطل، تتجلى قوة الإرادة في معدن أصحاب الأرض والهويّة والتاريخ، يُقاتل عن بصيرةٍ ثاقبة، بصيرةٌ معدومة كلياً بين هياكل الجيش الإسرائيلي، الفارغ من تاريخٍ يربطه بالأرض أو حضارة تحمي وجوده قبل أن يحميه السلاح.

لقد ترك الوثائقي في قلوبنا شواهد على مصيرنا القادم الذي نراه ونحلمُ به دون احتلالٍ وهيمنة، شواهدٌ ستبقى محفورة في ذاكرتنا نحن، نحنُ الذين خُذلنا وقُتلنا وظُلِمنا وحوصرنا، وأيضاً قاومنا وواجهنا ورفضنا الخنوع، وكل من يعرف فلسطين، يعرف أهلها وحلفائها، وما سقوط الأقنعة اليوم إلا بداية النصر الأكبر الذي نراه أقرب من أي وقت مضى، حينها سنروي حكاية “أسرار التحرير الثالث” الذي يرونه بعيداً ونراه قريباً.

بقلم: يوسف الحسني

إعلامي فلسطيني، باحث في مجال الصحافة

 

المصدر: بريد الموقع