شكل إعلان القوات المسلحة اليمنية فرض حظر بحري على ميناء حيفا نقطة تحوّل استراتيجية بارزة في مسار الصراع الإقليمي، حيث اعتُبر خطوة تصعيدية تستهدف أحد الأعمدة الأساسية في بنية العدو الاقتصادية والحيوية، عبر استهداف شريان رئيس ضمن منظومة الكيان الصهيوني. يعكس هذا الإعلان الانتقال من نمط المواجهة التقليدية إلى معادلة جديدة تحمل أبعادًا عسكرية واقتصادية وسياسية متداخلة، تضع الكيان في مواجهة تحديات مركبة على مختلف المستويات.
لا يقتصر هذا التحرك على كونه عملية عسكرية عابرة، بل هو تعبير عن مقاربة شاملة تربط بين تعطيل المنافذ الاقتصادية الحيوية للعدو وتأثيرها المباشر على قدرته العسكرية والسياسية، وفق مفهوم الحرب الشاملة التي تدمج الأبعاد الاقتصادية بالعسكرية والسياسية.
وتشكل تجربة حصار ميناء أم الرشراش، الذي سبق أن نجح في تعطيل حركة العدو البحرية، نموذجًا حيًا يُطبق الآن على ميناء حيفا، الذي يُعتبر مركزًا اقتصاديًا حيويًا يمثل قلب النشاط الإسرائيلي، ما يضع الكيان أمام أزمات معقدة قد تمتد آثارها على المدى المتوسط والبعيد.
تشير الخطوة إلى إعادة إدراج ميناء حيفا ضمن دائرة الاستهداف المباشر، ما يعني إطباق الحصار العسكري والاقتصادي عليه من بعد جديد، عبر ضربات متعددة تُحدث نقلة نوعية في قواعد الاشتباك الإقليمية والدولية. ويأتي هذا التصعيد في وقت يشهد فيه الدور الأميركي تراجعًا جزئيًا وانسحابًا محدودًا من ساحات الصراع المفتوحة في المنطقة، مما يعزز فرص إعادة هندسة موازين القوى، ويجعل الاحتلال مجبرًا على إعادة تقييم حساباته الأمنية والسياسية في ظل الضغوط المتزايدة.
تأتي هذه الخطوة ضمن سياق مخطط مدروس بدقة، يعكس فهمًا عميقًا لطبيعة المعركة وتصاعد الخطوات التي تعتمدها القوات المسلحة اليمنية. وتتمتع هذه القوات بوعي كبير بأهمية تخفيف الضغط عن غزة التي تواجه هجومًا متواصلًا، خاصة مع حساسية المواقع المستهدفة شمال حيفا، والتي تشمل مخازن الأمونيا، وضاحية الكريوت التاريخية، والصناعات العسكرية، إضافة إلى الأسلحة البحرية المتطورة كالغواصات الألمانية الصنع والزوارق السريعة، مما يضع هذه المواقع في دائرة التهديد المباشر ويعزز من التأثير الاستراتيجي للخطوة.
يمثل ميناء حيفا المحرك الاقتصادي والعسكري المركزي الذي يدعم استمرار الكيان، وتحويله إلى نقطة اشتعال جديدة يوازي حجم المأساة الإنسانية في غزة، ويشكل بارقة أمل في إعادة تشكيل موازين القوى في المنطقة، ويعزز فرص تحقيق اختراقات ملموسة على الأرض.
اقتصاديًا، يُعتبر ميناء حيفا عصب الحياة الاقتصادية للاحتلال، حيث يمر عبره نحو نصف الاقتصاد الكلي للكيان، ويدير حركة ما يقارب 30 مليون طن من البضائع شهريًا، بالإضافة إلى كونه عقدة لوجستية مركزية على طرق التجارة العالمية. كما يكتسب أهمية استراتيجية دفاعية كبرى لقربه من قاعدة “بولونيوم” التي تحتوي على ذخائر وصواريخ نووية وغواصات حربية، ما يضاعف من الرسالة الأمنية والسياسية لاستهدافه.
تكشف الوقائع أن الادعاءات التي ساقها الاحتلال حول تخصيص ميناء أم الرشراش فقط لنقل السيارات دون تأثير على القطاعات الحيوية، لم تكن سوى محاولة للتغطية على حجم الضرر الفعلي الذي أحدثه الحصار البحري اليمني، والذي أجبر العدو على الاعتماد على طرق برية عبر دول عربية متعاونة لنقل الإمدادات.
يشكل إعلان فرض الحظر البحري على ميناء حيفا إغلاقًا شبه كامل للممرات البحرية أمام الكيان، إذ لم يتبقَ سوى ميناء أسدود القريب من غزة، وهو غير قادر على تعويض النقص الحاد في القدرات اللوجستية والاقتصادية، ما يفرض قيودًا حاسمة على الحركة البحرية للعدو.
على صعيد القدرات العسكرية، تمتلك القوات المسلحة اليمنية طيفًا متصاعدًا من الإمكانات المستمدة من خبرات العمليات المشتركة مع المقاومة الإسلامية في العراق وتجاربها السابقة التي أثمرت عن إخراج عدد من السفن الحربية من الخدمة وشلل حركة العدو في البحر الأحمر، مما يعكس نموًا واضحًا في القدرات العملياتية واللوجستية.
تأتي هذه الخطوة في ظل استمرار الحصار الجوي على مطار بن غوريون، والحصار البحري على ميناء إيلات، مما يعمق من عزلة الكيان ويجعل منه هدفًا محاصرًا من كافة الجهات، ويعزز استراتيجيات العزل الأمني والاقتصادي التي تستهدفه.
تُعد هذه الإجراءات العسكرية رد فعل عمليًا على المجازر المستمرة في غزة، وتعبر عن تصعيد من الدعم الإعلامي والسياسي إلى خطوات ميدانية واقعية تؤثر بشكل ملموس في موازين القوى على الأرض.
سياسيًا، يعكس التحرك اليمني وحدة استراتيجية وتنسيقًا عالي المستوى بين محور المقاومة وعناصره المختلفة، ويجسد دعمًا ثابتًا ومستمرًا للقضية الفلسطينية، معززًا بذلك الموقف الوطني الصلب والوعي الاستراتيجي، وموضحًا أن الشعب اليمني يشكل سندًا دائمًا في النضال حتى تحقيق الأهداف المنشودة.
في السياق الدولي، كشفت الردود عن حجم الصدمة التي أحدثها القرار اليمني، حيث حذرت مراكز أبحاث وشبكات بحرية من ارتفاع المخاطر الأمنية على الشحن البحري في المنطقة. وعلى الرغم من الحصار والقصف المكثف خلال الأشهر الماضية، تبرز اليمن كفاعل إقليمي يحتفظ بقدرات هجومية فعالة، مما يعزز مكانتها في رسم موازين جديدة تمتد من البحر الأحمر إلى البحر المتوسط.
وقد أقر مسؤولون أمريكيون بوجود تهديد كبير تشكله اليمن على السفن، في اعتراف ضمني بتحول اليمن من دولة محاصرة إلى قوة إقليمية فاعلة ذات تأثير متزايد، ما يعكس تغيرًا نوعيًا في بنية التحالفات والاشتباكات الإقليمية.
على المستوى العسكري، يفتح القرار اليمني البحر المتوسط كساحة مواجهة جديدة، ويقلب قواعد الاشتباك رأسًا على عقب، مما يزيد من عزلة الكيان ويفكك تصوراته السابقة عن تفوقه العسكري، ويعلن بدء مرحلة جديدة من الصراع الإقليمي تتسم بالتشابك والتعقيد.
خلاصة القول، إن فرض الحظر البحري على ميناء حيفا يحمل دلالات استراتيجية عميقة، تجمع بين الردع العسكري والضغط الاقتصادي والتأثير النفسي، ويعبّر عن مرحلة جديدة من الدعم الفعلي لغزة والشعب الفلسطيني، ويضع اليمن كلاعب إقليمي رئيس قادر على إعادة تشكيل موازين القوى، بعد أن فرض نفسه قوة لا يستهان بها في المعركة المفتوحة ضد الاحتلال.
في ظل هذه المعطيات، يبدو أن الكيان الصهيوني أمام خيارين حاسمين: إما التراجع عن عدوانه ورفع الحصار عن غزة، أو خوض معركة استنزاف طويلة الأمد ستتكبد خلالها خسائر جسيمة على الصعيدين الاقتصادي والعسكري، في ظل تدهور وضعه الداخلي وتصاعد الضغوط الدولية والإقليمية، مما ينذر بتحولات جوهرية في المشهد الإقليمي خلال الفترة القادمة.
المصدر: موقع المنار